رجاء النقاش

نشر في 15-02-2008
آخر تحديث 15-02-2008 | 00:00
 محمد سليمان

كان رجاء النقاش صانعاً للنجوم وقادراً في الوقت نفسه على إغراء المتلقي وتوسيع دوائر القراء بسبب لغته البسيطة وخبرته في الكتابة الصحفية والعمل الإعلامي، وبهذه الخبرات كان يسعى إلى كسب ثقة القارئ والوصول إليه خاصة في عصر عبدالناصر الذي انحاز إلى الإبداع والثقافة وأتاح الفرص لمعظم مجايلي رجاء من الشعراء والكتّاب والنقّاد والمسرحيين والموسيقيين.

ببساطة ومن دون ادعاء أو التواء أو احتماء بظلال المصطلحات والعبارات الرنانة كان الراحل الكبير رجاء النقاش قادراً على اختراق الغابة والغوص فيها والعودة بالمبدع اللامع والشاعر الأصيل لأنه كان ناقداً مسلحاً بالبصيرة وبرهافة الحس، والقدرة الفذّة على التذوق والانحياز للجيد، مبرزاً عناصر الجودة وملامح الأصالة، ومن ثم كان بوسعه أن يطلق الصيحة الأولى صيحة الاكتشاف التي افتقدتها حياتنا الإبداعية في العقود الأخيرة بعد انشغال معظم النقاد عن النقد بأدواته واكتفائهم بترسيخ الراسخ وإضاءة المُضاء.

صيحات رجاء الشاب قدمت وأبرزت في الخمسينيات والستينيات العديد من زملائه وأبناء جيله، منهم أحمد عبدالمعطي حجازي، وصلاح جاهين، والطيب صالح، كما استطاعت إحدى صيحاته دفع قصيدة المقاومة إلى مركز الصدارة وزرعها في بؤرة الوعي العربي بعد هزيمة 1967 وشيوع اليأس والانكسار عندما كتب عن محمود درويش شاعر الأرض المحتلة وسلط الضوء على شعره وشعر زملائه سميح القاسم، وتوفيق زياد وفدوى طوقان وغيرهم.

بكتاباته النقدية كان رجاء النقاش صانعاً للنجوم وقادراً في الوقت ذاته على إغراء المتلقي وتوسيع دوائر القراء بسبب لغته البسيطة وخبرته في الكتابة الصحفية والعمل الإعلامي، وبهذه الخبرات كان يسعى إلى كسب ثقة القارئ والوصول إليه خاصة في عصر عبدالناصر الذي انحاز إلى الإبداع والثقافة وأتاح الفرص لمعظم مجايلي رجاء من الشعراء والكتّاب والنقّاد والمسرحيين والموسيقيين وغيرهم، ويحدثنا رجاء ابن قرية منية سمنود عن عبدالناصر والمؤتمر الأول لكتّاب آسيا وإفريقيا الذي عقد عام 1963 في قصر عابدين قائلا: «وقفنا في صفوف متراصة ومر علينا عبدالناصر وصافحنا واحداً واحداً فرأيناه عن قرب، وأدركنا صحة ما يقال عن هيبته وجاذبيته، وبعد انتهاء المصافحات انتقلنا إلى قاعة العشاء التي تبهر العيون وتخطف الأبصار، فشعرنا أننا نعيش ليلة من ليالي ألف ليلة مع فارق واحد أننا لم نكن أمراء أو أصحاب مال أو سلطان، وكنا ندرك أنه لولا عبدالناصر الذي فتح لنا الأبواب وقال ادخلوا ما كان لنا أبداً أن ندخل هذه القاعة».

كان رجاء المولود عام 1934 شاباً دون الثلاثين في ذلك الوقت ناجحاً ومؤثراً وواحداً من الذين حلموا وتحمسوا وانبهروا بعبدالناصر وبالمشروع القومي، وكان أيضاً واحداً من الذين عُوقبوا ودفعوا ثمن أحلامهم بعد وفاة عبدالناصر في عهد السادات الذي ظل على مدى عشرة أعوام يهمش ويعاقب الناصريين والقوميين واليساريين من الكتّاب والصحافيين وأساتذة الجامعات، أحياناً بالمنع من الكتابة والنشر في الصحف والمجلات، وأحياناً بطردهم من وظائفهم أو نقلهم إلى وظائف أخرى طريفة وبعيدة عن مجالات إبداعهم وتخصصاتهم لإبعادهم عن مواقع التأثير، وصدر قرار في سبتمبر 1971 بنقل رجاء النقاش رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون إلى وظيفة أخرى بعيداً عن أجهزة الإعلام، وقد كانت هذه العقوبات سبب فرار عدد كبير من المبدعين والمفكرين إلى الخارج في السبعينيات.

في منتصف السبعينيات التقيت برجاء النقاش في مجلة الهلال، كان قد تولى لعدة شهور مهمة الإشراف على المجلة بعد وفاة رئيس تحريرها الشاعر صالح جودت، في تلك الشهور التي لم تتجاوز الستة تألق رجاء وانتشل مجلة الهلال من ظلام الركود والغيبوبة وربطها بالواقع الإبداعي وتحولاته، فتضاعفت أرقام التوزيع وأشرقت المجلة وقصدها المبدعون من كل الأجيال، وببصيرة الناقد القائد رحب رجاء بالحركة الشعرية الجديدة التي عُرفت فيما بعد «بحركة السبعينيات» فنشر لي العديد من القصائد ولبعض زملائي الشعراء، ثم كان كعادته صاحب الصيحة الأولى... صيحة الاكتشاف عندما نشر ملفاً بعنوان «عشرة شعراء وعشر قصائد» محاولاً تقديم شعراء السبعينيات وتسليط الضوء على تجاربهم الشعرية.

في منتصف التسعينيات التقينا في منزل الناقد الراحل غالي شكري ولمحت الأسى في عيني رجاء عندما تساءل محمود درويش عن فشل النقاد في طرح وتقديم الحركة الشعرية الجديدة مصرياً وعربياً، فقد تذكر على ما أظن كل الظروف التي حالت بينه وبين إتمام دوره وإعلاء صيحته.

هناك في الغرب تستعين بعض الصحف العتيدة والشهيرة ببعض النقاد الكبار المسلحين بالبصيرة لكتابة زوايا أو أعمدة عن الإبداع، وعندما يُشيد أحدهم بعمل إبداعي ما يصحو المبدع من نومه ليجد نفسه نجماً متألقاً وشهيراً ورجاء النقاش سيظل يذكرنا دائماً بهؤلاء المبصرين الكبار.

* كاتب وشاعر مصري

back to top