إن بعض الفقه الدستوري يرى أن علو الدستور، ليس على أساس علو الجهة التي تصدره فحسب، بل كذلك على أساس موضوعي هو طبيعة الموضوعات التي يقررها وينظمها والتي تتمثل في المبادئ الأساسية العليا في الدولة التي تتعلق بنظام الحكم وحقوق الأفراد وحرياتهم.تلقيت بعض تعليقات القراء على مقالي الاثنين الماضي «حقوق المرأة السياسية غير قابلة للإلغاء دستورياً»، والذي انتهيت فيه إلى أن القانون الذي أتاح للمرأة مباشرة حقوقها السياسية، هو قانون كاشف لحق دستوري، غاب عن الممارسة سنوات طويلة، بخطأ من المشرع، وأن هذا القانون قد أعاده إلى سرب أحكام المبادئ الأساسية للحرية والمساواة في الدستور، غير القابلة للإلغاء.
وهي تعليقات، اقتضت بعض التفصيل للقوانين التي تكتسب الصفة الدستورية، أستميح القراء عذراً، إذا أطلت في عرض المبادئ القانونية التي تحكم هذا الموضوع، حيث يقوم نظام الدولة القانونية ومبدأ المشروعية على تدرج الأعمال القانونية، بمعنى أن القواعد القانونية التي يتكون منها النظام القانوني، ترتبط ببعضها ارتباطاً تسلسلياً، وأنها ليست جميعاً في مرتبة واحدة من حيث القيمة والقوة القانونية، بل تتدرج في ما بينها بما يجعل بعضها أسمى مرتبة من البعض الآخر، فتتحدد مرتبة كل قاعدة بالقياس إلى مرتبة غيرها في هذا التدرج، ويتم هذا التحديد تبعاً لتدرج السلطة أو الهيئة التي تصدر القاعدة، فكلما كانت الهيئة أعلى مرتبة كان لقراراتها قوة أكبر.
وبهذا المعيار العضوي أو الشكلي، يرتب أصحابه القواعد القانونية ترتيباً متدرجاً ليقف الدستور على قمة هذا التدرج، ولتسمو أحكامه وتعلو كل القواعد القانونية.
إلا أن بعض الفقه الدستوري يرى أن علو الدستور، ليس على أساس علو الجهة التي تصدره فحسب، بل كذلك على أساس موضوعي هو طبيعة الموضوعات التي يقررها وينظمها والتي تتمثل في المبادئ الأساسية العليا في الدولة التي تتعلق بنظام الحكم وحقوق الأفراد وحرياتهم، ومن ثم فإن هذه الموضوعات تتميز في موضعها بالعلو على باقي القواعد القانونية الأخرى.
وبذلك يتحقق مبدأ المشروعية ومبدأ سيادة القانون، أو الدولة القانونية، بسيادة الدستور باعتباره القيد القانوني الأساسي لسلطات الحكم الثلاث، السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، سواء وفقا للمعيار الشكلي أو الموضوعي الذي تكتسب فيه بعض القوانين الصفة الدستورية، يليه في التدرج التشريع الذي تصدره السلطة التشريعية وتلتزم فيه بأحكام الدستور، يليه القواعد التشريعية التي تصدرها السلطة التنفيذية، ثم تأتي في نهاية هذا التدرج القرارات الفردية بحسب مرتبة مصدر القرار في الهيكل التنظيمي للسلطة التنفيذية.
ووفقاً للمعيار الموضوعي لهذا التدرج فإن من القوانين العادية أو القرارات ما يكتسب الصفة الدستورية، بالرغم من أنها لم تصدر وفقاً للشكل الذي صدر به الدستور أو للشكل والإجراءات التي يمر بها تعديله أو تنقيحه، نستعرض أنواعها الثلاثة فيما يلي:
النوع الأول: قوانين أو قرارات تكتسب الصفة الدستورية بنص صريح من الدستور:
مثالها: القانون رقم (1) لسنة 1964 في شأن أحكام توارث الإمارة والذي يعتبر في مرتبة الدستور وفقاً للمادة (4) التي تنص على أنه «وينظم سائر الأحكام الخاصة بتوارث الإمارة قانون خاص يصدر في خلال سنة من تاريخ العمل بهذا الدستور، وتكون له صفة دستورية، فلا يجوز تعديله إلا بالطريقة المقررة لتعديل الدستور».
والبين من هذا النص، أن الدستور لم يكتف بإضفاء الصفة الدستورية على أحكام قانون توارث الإمارة، باعتبارها مسألة دستورية من حيث مضمونها وموضوعها، بل ذهب إلى حد اعتباره قانوناً دستورياً من حيث الشكل أيضاً، بالنص على عدم جواز تعديله إلا بالطريقة المقررة لتعديل الدستور، متجاوزاً في ذلك صدور هذا القانون ابتداءً، ومن حيث الشكل طبقاً للقواعد والإجـراءات التي تصـدر بها القوانين العادية، الأمر الذي كان يمكن معه – لولا نص المادة الرابعة– تعديله بقانون عادي.
النوع الثاني: قوانين وقرارات تكتسب الصفة الدستورية بسبب صدورها بتفويض من الدستور:
والمثال على ذلك: ما تنص عليه المادة 117 من الدستور من أنه:
«يضع مجلس الأمة لائحته الداخلية متضمنة نظام سير العمل في المجلس ولجانه وأصول المناقشة والتصويت والسؤال والاستجواب وسائر الصلاحيات المنصوص عليها في الدستور، وتبين اللائحة الداخلية الجزاءات التي تقرر على مخالفة العضو للنظام أو تخلفه عن جلسات المجلس أو اللجان بدون عذر مشروع».
ومؤدى هذا النص أن المشرع الدستوري تخلى عن تنظيم أو استكمال تنظيم بعض المسائل التي تعتبر بطبيعتها من المسائل الدستورية ليعهد بها إلى مجلس الأمة ينظمها أو يستكمل تنظيمها بقرار منه.
والدستور بهذا التفويض يضفي على قرار مجلس الأمة الصادر بتنظيم هذه المسائل الصفة الدستورية، لأن القرار الصادر من مجلس الأمة بتنظيمها، وبناء على هذا التفويض يعتبر وكأنه صدر من المجلس التأسيسي، وكأنه جزء لا يتجزأ من الوثيقة الدستورية، هذه هي طبيعة التفويض وهذه هي الآثار التي تترتب عليه بحيث يعتبر القرار الصادر بأداة أدنى كأنه صدر بالأداة التي قررت التفويض.
النوع الثالث: قوانين تصدر في مسائل دستورية، تخلى عن تنظيمها المشرع الدستوري لتصدر قوانين عادية:
وقد يدق الأمر في تحديد هذه القوانين لعدم وجود نص صريح في الدستور يضفي على هذه القوانين الصفة الدستورية أو يفوض المشرع العادي في تنظيم المسائل التي نظمتها هذه القوانين، حيث يشير الدستور عند تعرضه لهذه المسائل إلى تنظيمها بقانون أو وفقاً لأحكام القانون أو بناء على قانون، إلى غير ذلك من العبارات التي ترد في الدساتير عادة.
ويعتبر القانون الذي أتاح للمرأة مباشرة حقوقها السياسية هو أحد القوانين التي اكتسبت الصفة الدستورية، باعتبار أن الحق الدستوري للمرأة في مباشرة هذه الحقوق، هو حق تستمده المرأة من الدستور مباشرة، مثلما اعتبرت المحكمة الدستورية ولايتها بتفسير النصوص الدستورية التي أسندها إليها القانون رقم (14) لسنة 1973 بإنشاء المحكمة، مستمدة من الدستور مباشرة، وأنها غير قابلة للإلغاء.