كَذبَ المنجمّون ولو صَدَقوا

نشر في 09-01-2008
آخر تحديث 09-01-2008 | 00:00
 علـي بلوط

أجمع العلماء بأساليب مختلفة على القول عن سر انتشار ظاهرة الشعوذة: إن حالة اليأس السياسي والاجتماعي والتدنّي الاقتصادي تدفع الناس إلى التفتيش عن أي شيء يمنحهم الأمل الكاذب، ومعظم هؤلاء الناس يدركون أنهم يشترون الوهم الذي يبعث الأمل في نفوسهم ولو للحظات أو ساعات قليلة من اليوم.

هي مهنة قديمة توازي في قـِدمها مهنة الدعارة الجسدية، يطلقون عليها أسماء عديدة منها: قراءة المستقبل، واستلهام الشياطين والملائكة لمعرفة الغيب لشخص معين، وفي أحيان كثيرة للبلد ولشعب برمته. منهم من يستخدم «السحر الأسود» ويدّعي «أخوّة» أبالسة الجحيم، ومنهم من يزعم مصادقة الملائكة الصالحين، لكن في النتيجة فإن لهذه المهنة محتوى واحداً، واسماً واحداً متعارفاً عليه هو «الشعوذة» مهما اختلفت أساليبها ومسمياتها وأنواعها.

ما دفعني إلى الكتابة عن هذا الموضوع عاملان اثنان: الأول تسلية القارئ وإراحة باله قليلاً من شؤون وشجون السياسة والكوارث التي تنتظرنا على مفترق الطريق، في محاولة لزرع بسمة الأمل على الوجوه القلقة المضطربة، متمنياً أن يكون ذلك «عيدية» بدء السنة الجديدة، والعامل الثاني هو استفحال هذه الظاهرة وانتشارها في مجتمعنا العربي من المحيط إلى الخليج، وبوجه خاص المجتمع اللبناني على اختلاف طبقاته المثقفة والجاهلة على حد سواء، أو أنصاف المتعلمين أو الذين أصيبوا بعمى التعصب الديني أو السياسي أو الاثنين معاً حيث وصلت هذه الظاهرة إلى أبواب أسياد البلاد وحكامها.

في جولة قصيرة في أرجاء المكتبات البيروتية نجد أن رفوفاً طويلة وعريضة صُفّـت عليها ما أنتجته عبقريات هذا النوع من الكتبة، تتصدّر صورهم الهوليوودية الأنيقة الملونة أغلفة هذه الكتب مع عناوين تثير شهية كل من يريد أن يكتشف طالعه في السنة الجديدة: هل سيصبح غنياً؟ هل سيلتقي نصفه الآخر، هل سينال المراد في مركز سياسي مرموق، هل ستتمّ صفقة أو صفقات كان يسعى إليها في السنة المنصرمة تزيد من رصيده المصرفي عدة عشرات من ملايين الدولارات؟ وهل سيشفى من مرض عضال؟ وأخيراً وليس آخراً هل ستتعرض البلاد إلى هزات أرضية عندما يلتقي الكوكب «جوبيتر» -مثلاً- مع أنيسه وجاره كوكب «الزهرة» ثم يشكلان معاً، في لحظة نادرة، «نبوءة» تمنح السعادة أو البؤس والتعاسة لمن ألقاه حظه العاثر أو التعيس في أتون مصادفة تاريخية عندما وُلـِدَ يوم هذا اللقاء التاريخي المشهود؟!

ما يثير السخرية إلى درجة الغضب الشديد ويؤدي إلى ارتفاع منسوب مرض السكري وضغط الدم في الشرايين التي غزاها مرض التصلب واليباس، أن هذه الكتب القيمة تشكّل، حسب إحصاءات شبه رسمية نسبة 75 في المئة مما أنتجته مطابع عاصمة النور والثقافة بيروت خلال السنة الماضية، وأن نسبة مبيعاتها فاقت حدود مبيعات الكتب الأدبية والسياسية والتاريخية والعلمية، وأن بعض عناوين هذه الكتب قد نفد وفُقـِدَ من المكتبات بعد ساعات أو أيام من خروجها من المطبعة، بينما أقرانها من الكتب الأخرى، ذات القيمة العقلية، مازالت «مكدسة» فوق بعضها تذرف دموع الخيبة وهي تحثّ القارئ لا لشرائها بل لمجرد إلقاء نظرة خاطفة على مضمونها... لعل وعسى.

عشية ميلاد السنة الجديدة ظهر على شاشة إحدى قنوات التلفزة اللبنانية طبيب نفسي محترم أطلق صرخة التحذير من مساوئ هذه الظاهرة المتفشية في مجتمعنا عندما أشار إلى وجود نسبة ملحوظة في انتشار هذا النوع من الكتب، وأعطى أرقاماً إحصائية تثير الذهول والدهشة. قال الدكتور منصور، وأعتقد أنه اختصاصي في علم النفس، أن الإقبال على شراء وقراءة هذه الكتب زاد في العام 2007، عما سبقه من أعوام، بنسبة تتراوح بين 20 و25 في المئة موزعة على مختلف طبقات المجتمع. وقال أيضاً إن هذه الزيادة طالت فئات الموسورين والموسرات من رجال أعمال وسياسيين معروفين حيث وصلت إلى نسبة 12 في المئة من هذه الطبقة الاجتماعية، بينما تعدت 30 في المئة من مجموع الشعب اللبناني من الطبقة الوسطى والفقراء.

من دون ذكر الأسماء، أعرف سيدة مجتمع وصاحبة صالون يؤمه السياسيون والصحافيون ورجال المال والأعمال «وظفت» لديها واحداً من المشهورين في قراءة «البخت». تتصل به هاتفياً صباح أو ظهر كل يوم، أو عندما تستيقظ من النوم، ليضع لها جدول أعمالها اليومي استناداً إلى قراءة أبراجها. هذه السيدة مدمنة على طاعة أوامر «طبيبها الروحي». فإذا قال لها لا تخرجي من البيت اليوم، أو لا تستقبلي فلانة أو فلانة، أو لا تأكلي هذا النوع من الطعام، نفذّت أوامره بكل دقة.

من دون ذكر الأسماء، قال لي واحد من المفكرين اللبنانيين المعروفين في الشرق وفي الغرب معاً إنه قضى سنتين في تأليف كتاب يحتوي على وثائق وتحليلات من شأنها أن تنير طريق العقل نحو مستقبل أفضل. الناشر، مدفوعاً برغبة الربح، استغل اسم الكاتب ومكانته فدعا إلى حفلة «كوكتيل» يوقـّع خلالها الكاتب كلمة إهداء شخصية، كما هي العادة. وجاءت النتيجة أنه «باع» خلال الحفلة نحو 400 نسخة. ثم مرت سنة 2007، فاتصل الكاتب بدار النشر وهو يمني النفس بالحصول على «شيك» معقول ثمن شراء كتابه. وجاءه الجواب الصدمة: طيلة السنة الماضية لم تـُسجل حالة بيع نسخة واحدة بالرغم من توزيعها على مختلف المكتبات. قرر هذا الكاتب والباحث الصديق «الاستقالة» من مهنة الفكر، وهو يفتش اليوم عن عمل لا علاقة له بالحبر والورق والكتابة.

في المقابل، ومن دون ذكر الأسماء أيضاً، استطاعت واحدة من اللواتي تطمث كل سنة كتاباً يتحدث عن «البخت» وأخواته وأعمامه، من تشييد بناية في منطقة بيروتية راقية مؤلفة من 12 طابقاً فخماً، بالإضافة إلى امتلاك سيارة يابانية غالية السعر، مع أخرى صغيرة يستخدمها الخدم والحشم، بالإضافة إلى مجموعة منتقاة من أغلى أنواع الفرو... كل ذلك هبط عليها من دخل مبيعات كتبها لبنانياً وعربياً وفي الأسواق العالمية التي ينتشر فيها مغتربونا وكل من يتحدث لغة الضاد. و«كاتبة البخت» هذه ومثيلاتها أصبحن نجمات مجتمع محملات بما خف حمله وغلا ثمنه من الجواهر والأحجار الكريمة النادرة، يتزاحم الكبار من أسياد المجتمع اللبناني والعربي من سياسيين واقتصاديين وأصحاب ثروات ضخمة على دعوتها إلى حفلاتهم.

ولو بقيت هذه الظاهرة محصورة في الكتابة والكتب لكانت المشكلة سهلة، لكنها تعدّت إلى قنوات التلفزة المحلية والفضائية حيث تتزاحم هذه القنوات على التعاقد بمئات ألوف الدولارات وربما يصل المبلغ إلى حد المليون سنوياً، لتقديم برنامج أسبوعي مباشر ترد فيه قارئة البخت والفنجان على أسئلة ومشاكل المشاهدين والمشاهدات. نموذج صغير من فحوى هذه البرامج: تسأل قارئة البخت عن اسم محدثتها فترد السيدة أو الفتاة المصون: اسمي فدوى. تسارع «المنجمة» إلى الرد السريع: أعرف أنك ستسألينني عما إذا كنتِ ستتزوجين قريباً. الجواب لا... لن تتزوجي إلا إذا استبدلت اسمك باسم يحتوي على خمسة حروف.

من دون ذكر الأسماء أيضاً، التقيت في نادٍ مشهور للقمار في العاصمة البريطانية لندن بواحد من أشهر قارئي «البخت» في العالم العربي، كان يمارس بشغف كامل هوايته في لعب «الروليت» إلى درجة سيطرت على كل حواسه، فلم يعد يرى حوله وحواليه سوى كرة الحظ التي تدور لتجلب له وللآخرين الخسارة المحتومة. بعد ساعة ترك صاحبنا الطاولة بعد أن أخذت كل ما في جيوبه. كان منظره يبعث على الشفقة. فقلت له مازحاً: إذا كنت تقرأ بخت الآخرين فلماذا لم تقرأ بختك وتعرف مسبقاً في أي رقم ستقع الكرة. يبدو أن مزاحي كان ثقيل الظل بدليل أنه رمقني بنظرة أشبه برصاصة موجهة إلى القلب مباشرة واختفى بلمحة نظر، ومازال مختفياً.

هذه الظاهرة لم تبق في مكانها بين صفوف العامة من أغنياء وفقراء على حد سواء، بل تعدّتها إلى الخاصة وعلى مستوى الحكام وأنصاف الحكام، ومن دون ذكر الأسماء أيضاً، أعرف حاكماً من حكام شرقنا كان يؤمن إلى درجة العمى بكل ما تقول له قارئة بخت بدوية، تعيش في وسط الصحراء، لا تعرف الكتابة ولا القراءة. زارها ذات يوم فقالت له: أنت ستُقتَل. لكن خصومك لن يتمكنوا من قتلك طالما كان إلى جانبك أصغر أبنائك، فهو «حجابك» الواقي من القتل. منذ تلك اللحظة لم يفارق الأب ابنه الأصغر وكان يحضر معه الاجتماعات واللقاءات ذات المستوى العالي جداً.

أيضاً ومن دون ذكر الأسماء، أعرف حاكماً شرقي الهوية والهوى مولعاً إلى درجة الإيمان العميق بـ«التبصير» وبعلم السحر الأسود، وكان يمارس طقوسه مساء كل يوم خميس، وقد أمر سفراءه في الخارج، بالتفتيش الدقيق عن كل من يجيد هذا النوع من «الفن الإيماني» وإرسالهم إلى عاصمته على أول طائرة، وصودف أن أحد الزملاء في مهنة الحبر والورق عرف سر الدخول إلى قلب وعقل الحاكم، وكان هو الآخر من العارفين بأسرار مهنة قراءة الغيب فتمكّن من أن يصبح «الممول» الأول لهذا الحاكم حيث جمع ثروة لا تأكلها النيران، وهو اليوم، يعيش متنقلاً بين عدة قصور وفيللات اشتراها في عدد من العواصم الأوروبية.

سؤال يتيم حملتـُه ووضعتـُه أمام عدد من علماء النفس اللبنانيين: ما سرّ انتشار هذه الظاهرة؟! أجمع هؤلاء العلماء بأساليب مختلفة على القول: إن حالة اليأس السياسي والاجتماعي والتدنّي الاقتصادي تدفع الناس إلى التفتيش عن أي شيء يمنحهم الأمل الكاذب، ومعظم هؤلاء الناس يدركون أنهم يشترون الوهم الذي يبعث الأمل في نفوسهم ولو للحظات أو ساعات قليلة من اليوم... إلى أن يصلوا إلى حالة الإدمان.

* كاتب لبناني

back to top