وهذا التنبيه هو توضيح لما ذكرته في البند السادس من النهي عن الخروج على الحكام.

Ad

قد شاء الله سبحانه أن تكون لي صلة ببعض الجماعات الإسلامية في وقت من الأوقات من أجل العمل على تحكيم الشريعة الإسلامية في مصر كواجب شرعي على كل مسلم، وبعد بحث الأمر من الناحية الشرعية وبعد استشارة بعض أهل العلم ومع دراسة الواقع استقر رأيي في عام 1412هـ/1992م على أن الصدام مع السلطات الحاكمة وقواتها بمصر لن يحقق هذه المصلحة الشرعية فحاولت صرف هذه الجماعة الإسلامية عن الصدام وتوجيهها وجهة دعوية وذلك قبل أن تخوض في أي صدام بمصر، فلم يستجيبوا لذلك، فافترقنا، وانقطعت صلتي بتلك الجماعة وبجميع الجماعات الإسلامية منذ أوائل عام 1413هـ/1993م، وأردت أن أذكر للقارئ الكريم المعطيات الشرعية والواقعية التي بنيت عليها قراري بعدم جدوى الدخول في صدام مع السلطات بمصر لأجل تحكيم الشريعة وبالتالي عدم جوازه شرعًا لما يترتب عليه من المفاسد الجسيمة وعدم تحقيقه للمصلحة المرجوة، ليستفيد من ذلك من أراد.

الصدام مع السلطات

1) أما من الناحية الشرعية: فإن الصدام مع السلطات الحاكمة باسم الجهاد لا يجوز لعدم توفر كثير من شروطه ووجود بعض موانعه ولغلبة مفاسده على المستويين الخاص والعام قال الله تعالى «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» (الأحزاب:21)، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يجاهد ولم يفرضه الله عليه إلا بعد ما توفرت له مقومات الجهاد وهي من شروط وجوبه ومقدمات نجاحه، وهذه لا وجود لها في معظم البلدان، ومنها:

• دار الهجرة والنصرة: لا دار التخفي، ولم يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إلا بعدما أخذ من أهلها البيعة على الإسلام ثم على الإيواء والنصرة والمنعة في بيعتي العقبة الأولى ثم الثانية، ولم يهاجر إليها صلى الله عليه وسلم إلا بعدما أرسل من يستطلع له أحوال المدينة وأهلها على الواقع وهو مصعب بن عمير رضي الله عنه، وهذا لا وجود له.

• والتكافؤ في العدد والعدة: وسبق الكلام في ذلك بالبندين الخامس والثاني عشر، وهذا من شروط وجوب الثبات ومظنة النجاح، ومع انعدام التكافؤ بين طرفي الصدام لا يجب الجهاد، (فالعجز يسقط التكليف والوجوب)، وهذا هو واقع حال الجماعات الإسلامية في معظم بلدان المسلمين.

• وتأمين ذراري المسلمين (نسائهم وعيالهم): متعذر، ومن خاضوا الصدام عاد بالضرر على ذراريهم، وفي غزوة الأحزاب جعل النبي صلى الله عليه وسلم الذراري في حصن بالمدينة، وهذا يتعذر. وقد نقلت في البند الرابع عن الشافعي رحمه الله من كتابه «الأم» أنه إذا خاف الرجل على أهله من العدو إذا خرج للجهاد لم يجز له الخروج.أ.هـ. ويدل على ذلك قول الله تعالى «...وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا» (الأحزاب:13)، ومعنى الآية أن البيوت إذا كانت عورة - مكشوفة للعدو - جاز لهم الاستئذان بلا لوم.

• والنفقة اللازمة للجهاد: متعذرة وهذا يسقط وجوبه كما سبق في البند الثالث، ولا يحل نهب أموال المعصومين بذريعة تمويل الجهاد كما سبق، ولا يجوز ارتكاب ما لا يحل لأداء ما لا يجب.

• والفئة التي يمكن التحيز إليها: لا جود لها، وقال عمر رضي الله عنه: «أنا فئة لكل مسلم» فأين هذا؟، وانحاز خالد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة في مؤتة.

• وتميز الصفوف متعسر: بما يؤدي إلى قتل من لا يحل قتله من المعصومين والمسلمين حال الصدام، وقد سبق هذا في البنود من السابع إلى التاسع.

الخيارات الشرعية

ومع عدم توفر مقدمات الجهاد ومقوماته ومع وجود موانعه، فلا يجوز شرعًا الإصرار على خيار الصدام مع السلطات لأجل تحكيم الشريعة ويجب الانتقال إلى الخيارات الشرعية الأخرى الميسورة كالدعوة والإصلاح ونحوها، وخصوصا أن التجارب السابقة أظهرت مفاسد جسيمة ترتبت على هذا الصدام على المستويين الخاص والعام، والقاعدة أن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» وأن «الفساد علة التحريم» وأن «الضرر لا يزال بمثله ولا بأشد منه» وهذا كله يثبت منع الصدام من الناحية الشرعية.

2) وأما من الناحية الواقعية: فإن عجز الجماعات الإسلامية عن تغيير نظام الحكم في مصر عن طريق الصدام يدركه الإنسان بالنظر في التاريخ، والاعتبار بالتاريخ واجب شرعًا لأن الله قد ذم من لم يعتبر به، ومن الناحية الأصولية فإن الذم لا يكون إلا على ترك واجب، فقال تعالى «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (الحج:46)، وقال الشيخ المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه «عجائب الآثار»: «إن دراسة التاريخ وقراءته تجعل القارئ أكثر عقلاً».أ.هـ، لأن دراسة التاريخ تزود الإنسان بخلاصة تجارب السابقين وخبراتهم الطويلة في زمن وجيز. وعلى مدى التاريخ فإن النظام في مصر لم يتغير إلا بإحدى طريقتين:

• الطريقة الأولى: «غزو خارجي» كالغزو الفارسي والغزو الروماني والفتح الإسلامي والغزو العثماني والاحتلال الإنكليزي لمصر.

• والطريقة الثانية: «تغيير من داخل السلطة الحاكمة» مثل خروج صلاح الدين الأيوبي على الفاطميين وكان وزيرًا عندهم فأنهى دولتهم وحول مصر من دولة شـيعية إلى دولة ســنية، ومثل اسـتيلاء محمد علي باشا الكبير على السلطة بمصر (1805م)، وكان ضابطًا عثمانيًا فاستولى على السلطة وبدأ مسيرة التحديث في مصر، ومثل استيلاء جمال عبد الناصر على السلطة بمصر عام 1952م وأحدث تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة بمصر.

لم يتغير النظام بمصر على مدى التاريخ إلا بإحدى هاتين الطريقتين، وكلتاهما تعجز عنها الجماعات الإسلامية فهي ليست من أهل السلطة ولا تستطيع الغزو الخارجي، فضلاً عن أن هذه الجماعات لا تملك مقومات الحرب النظامية ولا حتى مقومات حرب العصابات المتفق عليها، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله «ان مصر بقيت دار ردة زمن الفاطميين «العبيديين» مئتي سنة حسب قول العلماء حتى غيرها صلاح الدين يوسف بن أيوب» هذا حاصل كلامه، وقد كان بمصر حينئذ علماء أكابر من أهل السنة وما فعلوا شيئًا وما غيروا ذاك النظام، فالحركات الشعبية ومنها الجماعات الإسلامية لم تغير النظام في مصر على مدى التاريخ، ولما كان الاعتبار بالتاريخ واجبًا لأن «العادة محكمة» فلا ينبغي تجربة ما لا جدوى منه بل مفاسده غالبة.

«الميسور لا يسقط بالمعسور»

ولما كانت القاعدة الفقهية تنص على أن «الميسور لا يسقط بالمعسور» ولها أدلة كثيرة من الشرع: كالآية: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ...» (التغابن:16)، والحديث «وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم»، وحديث عمران بن حصين في صلاة المريض مرفوعًا «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» رواه البخاري، وبناء على هذه القاعدة: فإذا كان التغيير باليد معسورًا انتقل الوجوب إلى التغيير باللسان، فإذا تعسر هذا اقتصر الوجوب على الإنكار بالقلب وهو واجب على كل حال، بحسب التدرج الوارد في حديث «من رأى منكم منكرًا فليغيره» والتغيير باللسان هو الدعوة الإسلامية بصورها المختلفة بحسب الاستطاعة، وقال تعالى «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا...» (البقرة:286)، وليس البديل هو قتل المدنيين والأجانب والسياح وتخريب الممتلكات والعدوان على دماء المعصومين وأموالهم بدعوى الجهاد فهذا كله حرام، والحكمة تقتضي وضع الشيء في موضعه الصحيح وعدم التخليط، وقد قال تعالى «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» (البقرة:269).

الاعتبار بالتاريخ

وأكرر أن الاعتبار بالتاريخ واجب، وقد ذمّ الله من لم يعتبر به، فالتاريخ هو القدر (الذي هو أفعال الله في خلقه، فالله خالق كل شيء)، والتاريخ هو سنن الله القدرية، ولما كانت «العادة محكمة» فإن ما لم تفلح الحركات الشعبية في إنجازه في الماضي فلن تفلح فيه في الحاضر، وإنما يرجع ذلك إلى طبيعة مصر كدولة مركزية تمتد سلطتها إلى أعماق البلاد وأطرافها لضبط الري وجباية الخراج لأنها دولة نهرية، وامتداد السلطة إلى الأطراف كفيل بإجهاض المعارضة الشعبية في مهدها، والدول والشعوب لها خصائص تلازمها دائمًا كتلك التي وردت في الأحاديث التي رواها مسلم في صحيحه في أبواب مناقب فارس ومناقب الروم. والجهاد إنما شرع لإزالة الضرر عن الدين وأهله فإذا عاد بضرر أشد لم يجب لأن «الضرر لا يزال بمثله ولا بأشد منه». والذين نصحت لهم بعدم الصدام فلم يقبلوا، لا هم أقاموا الدين ولا أبقوا على أنفسهم، فكنت وإياهم كما قال الشاعر:

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى 

               فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

وأنا أرى أن كل من أشعل صدامات ودفع بإخوانه إلى مواجهات حربية غير متكافئة، وهو ليس من أهل الاختصاص في الفتوى ولا في الشؤون العسكرية، أرى أن مثل هذا أو هؤلاء يجب عليهم ضمان كل الخسائر التي وقعت لإخوانهم وبغيرهم من المعصومين، لأن من تطبب ولم يعرف منه طب فهو ضامن لما أتلفه، وكذلك من أفتى وهو غير أهل فهو ضامن، وإن أفلت من الضمان في الدنيا بقيت عليه تبعته في الآخرة.