Ad

عندما شرع جوهر الصقلي في وضع حجر الأساس لحاضرة الفاطميين بالقاهرة، لم يدر في خلده أنه كان يؤسس لواحدة من أهم مدن العصور الوسطى، فعقب دخوله إلى مصر في رمضان عام 258هـ (969م) لجأ القائد الفاطمي إلى محاكاة ما كانت عليه أوضاع الفاطميين في أفريقيا من الانفراد هم وحواشيهم.

مثلما شيد خلفاء الفاطميين مدينة المهدية ثم مدينة المنصورية بقرب القيروان شرع جوهر في إنشاء مدينة ملكية ينزل بها سيده المعز لدين الله وجنده ورجال البلاط بعد قدومهم إلى مصر، واختار لها بقعة تقع إلى الشمال الشرقي من العاصمة الفسطاط.

كان مقدراً للمدينة التي شيدت على مساحة مربعة طول ضلعها 400 ذراع أن تكون ضاحية ملكية للفسطاط مثلما هي حال ويندسور مع لندن أو فرساي قرب باريس.

وطبقاً للروايات التاريخية فإن جوهر اختار للمدينة الجديدة اسم «المعزية» تيمناً باسم الخليفة المعز لدين الله وقام البناؤون أولاً بحفر حدود أسوار المدينة ولكن جوهر أرجأ إلقاء أحجار أساس الأسوار ريثما يجد المنجمون طالعاً حسناً وساعة مباركة للشروع في البناء، ولذا قام بإحاطة المساحة بحبال علقت بها أجراس ووقف البناؤون بأيديهم الأحجار انتظاراً لقيام المنجمين بشد هذه الحبال عند ظهور الطالع الملائم، وحسب الروايات التي لا تفتقد الطابع الأسطوري فإن غراباً حط على بعض الحبال فتحركت الأجراس وسمع البناؤون قرعها فرموا ما بأيديهم من حجارة وشرعوا في بناء السور بينما كان المنجمون يحاولون إيقافهم وهم يصيحون لا، القاهر في الطالع، أي أن كوكب المريخ هو الذي في الطالع، ولكن اصواتهم ذهبت هباء منثوراً وأسست المدينة التي عرفت لذلك باسم «القاهرة».

وبغض النظر عن مدى صحة هذه الروايات فإن المؤكد أن المدينة عرفت منذ اليوم الأول لتأسيسها باسم القاهرة وأحياناً كانت تعرف لاسيما في الوثائق الفاطمية باسم «القاهرة المعزية» وجاءت أسوار جوهر من الطوب الأحمر، وفتحت فيها ثمانية أبواب بواقع بابين في كل جهة، ففي الشمال كان هناك باب الفتوح ومنه تخرج الجيوش للغزو وباب النصر وعبره تمر الجيوش في عودتها الى القاهرة وفي الجنوب عرف البابان باسم «زويلة» إحدى قبائل المغرب التي جاءت مع الفاطميين إلى مصر، أما بابا الضلع الشرقي فكان باب البقية وباب الفرج في ما عرف بابا الضلع الغربي باسم باب سعادة وباب الخرق.

وفي التخطيط العمراني للمدينة كان هناك شارع طولي يمتد من باب الفتوح إلى باب زويلة وطريق آخر رئيسي يقطعه من الشرق إلى الغرب، وعند نقطة التقاطع بين الشارعين الرئيسيين، ولكن باتجاه الشرق قليلاً تم تشييد الجامع الأزهر بوصفه المسجد الجامع للمدينة.

وعلى جانب قصبة القاهرة (الآن شارع المعز لدين الله) بالقرب من السور الشمالي تم تشييد قصرين فاطميين أحدهما للخيلفة وبلاطه وهو القصر الشرقي الكبير، والثاني للأمراء الفاطميين وهو القصر الغربي الصغير، ولذا عرفت قصبة القاهرة باسم شارع بين القصرين.

وتركت مساحة مفتوحة أمام القصر الشرقي لاستعراض الجند ولإقامة الاحتفالات وهي معروفة إلى اليوم باسم «رحبة العيد» رغم أنها تحولت إلى حارة ضيقة تحدق بها المباني.

وقسمت القاهرة إلى حارات ذات أبواب تغلق في الليل على سكانها وسميت بحسب انتماءات سكانها، فبعضها كان للقبائل المغربية مثل كتامة وزويلة وبعضها لفرق من الجيش كالفرحية والباطلية (الباطنية) وحارات أخرى لأجناس كالروم وحارة لليهود يقيمون بها وعرفت حارات أيضاً بأسماء بعض رجال البلاط مثل حارة برجوان الشهيرة، ومن الملفت للنظر أن حارة اليهود التي أفردت لهم كانت على مقربة من أسوارها الغربية، وذلك لأنهم كانوا يربون المواشي داخلها بغرض الذبح وفقاً للشريعة اليهودية (الكاشير)، وقد أدى ذلك إلى نشأة مجموعة من المهن المرتبطة داخل هذه الحارة كإنتاج الألبان والأجبان ودباغ الجلود والصباغة، وكلها كانت تؤدي إلى انبعاث روائح غير محببة، ولذا اختار جوهر الصقلي لحارة اليهود هذه البقعة القصية عن قلب الحاضرة الملكية.

وكانت بوابات القاهرة تغلق بعد صلاة العشاء مباشرة ولا يتم الدخول إليها بعد ذلك إلا بتصريحات كتابية لمن تستدعي أعمالهم الوصول إلى المدينة في هذا الوقت المتأخر من الليل، ويعتبر باب زويلة بالسور الجنوبي مدخلها الأكثر ازدحاماً إذ كان يقصده أصحاب المهن والحرف المختلفة القادمين من العاصمة الفسطاط (مصر القديمة).

ورغم اقتصار سكن القاهرة على جنود الخلافة ورجال البلاط والإدارة فإنها سرعان ما تمددت مبانيها خارج الأسوار، وكان ذلك في اتجاه الشمال، إذ شيد الخليفة الحاكم بأمر الله مسجده الجامع خارج السور الشمالي مباشرة.

وشهدت القاهرة تحولاً مهماً في تاريخها العمراني عند منتصف القرن الخامس الهجري (11م)، إذ انخفض فيضان النيل سبع سنوات متتاليات فانتشرت الأوبئة الفتاكة، وعدمت الأغذية حتى أكل الناس الجيف والكلاب والقطط بل لحوم البشر في ما عرف بالشدة العظمى أو الشدة المستنصرية لوقوعها في عهد الخليفة المستنصر بالله.

فقد أدت هذه الأحداث المأساوية إلى تخريب القاهرة مما دفع بالوزير الأرمني الأصل بدر الجمالي إلى اتخاذ إجراءات لإعادة إعمارها، إذ أباح للناس من عامة الشعب الإقامة فيها فتحولت إلى مدينة سكنية، ونظراً للتهديدات العسكرية التي كانت تهدد الدولة فقد أعاد بدر الجمالي إنشاء أسوار القاهرة وبواباتها بالأحجار وضم داخلها جامع الحاكم بأمر الله، ولكن عمران القاهرة حاصر أسوار الجمالي في ما بعد حتى لم يبق منها سوى جزء من ا لسور الشمالي وبوابتي الفتوح والنصر في هذا السور بالإضافة إلى باب زويلة في السور الجنوبي للمدينة، ويعرف الباب الأخير باسم بوابة المتولي لقرب مقر متولي الشرطة منه، ولذا كان عقد هذا الباب المكان المفضل لتعليق حبل المشنقة لمن صدرت بحقهم أحكام الإعدام، ويعتبر طومان باي آخر سلاطين المماليك آخر من تم إعدامهم بالشنق عند باب زويلة.

وفقدت القاهرة آخر صفة لها كمدينة ملكية لنخبة الحكم باستيلاء صلاح الدين الأيوبي على حكم البلاد والقضاء على خلافة الفاطميين في عام 567هـ، إذ قرر صلاح الدين إنشاء قلعة فوق جبل المقطم لتكون مقراً للحكم جرياً على عادة أهل الشام وشمال العراق آنذاك، إذ اعتاد أمراء الزنكيين الإقامة في قلاع محصنة قرب المدن.

واستمرت قلعة الجبل مقراً للحكم طوال عهود الأيوبيين والمماليك والعثمانيين إلى أن قام الخديوي إسماعيل بإنشاء قصر عابدين فعاد مقر الحكم إلى القاهرة في منتصف القرن التاسع عشر.

ونظراً لقرب القاهرة وبعدها في نفس الوقت عن الشاطئ الشرقي للنيل، فقد تعددت جهود توفير مياه الشرب النقية لسكانها، فعلى عهد الفاطميين تم حفر «الخليج الحاكمي» وكانت المياه تدخل إليه من قنطرة السد بعد وصول مياه الفيضان في فصل الصيف وكان الخليج (شارع بورسعيد حالياً) من منتزهات القاهرة تسير فيه المراكب خلال فصل الصيف، وشيد المماليك قناطر المياه المعروفة اليوم باسم سور مجرى العيون، وكانت المياه تنقل فوق هذه القناطر من ساقية ماء عند شاطئ النيل الشرقي (فم الخليج) لتصل إلى سكان القلعة مقر الحكم في هذه الأثناء.

وبالإضافة إلى ذلك شهدت القاهرة إنشاء العديد من أسبلة الماء وهي كلها منشآت خيرية، الغرض منها توفير مياه الشرب للمارة في الشوارع وأيضاً لأصحاب المنازل الذين قد لا يطيقون تحمل كلفة شراء المياه يومياً من السقائين.

ونظراً لاتساع عمران القاهرة فقد نشأت فيها طائفة الحمارين، وكانت مواقفها عند أبواب المدينة يقصدها الناس لاكتراء الحمير للتنقل بها بين شوارع وحارات القاهرة، وكانت هناك أيضاً طائفة الشواغرية، وهم أصحاب الجمال التي تقوم بنقل السلع والأحمال المختلفة.

وينظر إلى القاهرة القديمة باعتبارها متحفاً معمارياً مفتوحاً، إذ تنتشر فيها العمائر الأثرية التي تنتمي إلى العصور الإسلامية المختلفة، وتتضمن كل أنواع العمائر الدينية والمدنية والحربية التي عرفتها حضارة الإسلام، فبالإضافة إلى المساجد والمدارس وبيوت المتصوفة توجد أيضاً الوكالات التجارية والحانات وأهمها وكالة الغوري قرب الجامع الأزهر، وهناك الأسبلة والكتاتيب والمنازل والقصور مما يخرج عن الحصر، ويكفي أن القاهرة تعرف في بعض الكتابات باسم مدينة «الألف مئذنة».

وتضم القاهرة الآن عدة مدن منها ما هو تاريخي مثل الفسطاط الحاضرة الإسلامية الأولى (مصر القديمة أو العتيقة) وفي القلب منها جامع عمرو بن العاص والقطائع عاصمة الطولونيين التي لم يبق منها سوى الجامع الطولوني والعسكر حاضرة العباسيين بالإضافة إلى أحياء حديثة في الاتجاهات الأربع، وتعد واحدة من أكبر مدن العالم، إذ يقترب سكانها من 17 مليون نسمة.

وتتميز القاهرة بكثرة مزاراتها السياحية التي تشمل تقليدياً قلعة الجبل وحي الحسين الشهير وأحياء الجمالية والغورية والسروجية، إذ تنتشر منتجات المهن التقليدية من النحاس والأخشاب والجلود والأقمشة.