جميل جداً أن تضاف إلى مزايا الإعلام ووظائفه وظيفة جديدة؛ هي: الحل الفوري لمشكلات الناس بعد تحقيقها والفصل فيها على الهواء مباشرة، لكن الإشكال الذي ينشأ أن الإعلام يتحول إلى سلطة أكبر من كل السلطات، قادرة على العبور خلالها، وتغيير إيقاع أدائها وفق توقيتات برامج الهواء.ينزل متهادياً في جلبابه الأبيض من سلالم البناية العالية، تعبث أصابعه بحبات المسبحة الفضية الطويلة، ويسير خطوات تحت الوهج الناعم لشمس ظهيرة يوم الجمعة، فإذا بعشرات من الرجال والنساء الملتاعين يهبون واقفين، تاركين مواقعهم على الأرصفة وفوق السيارات الرابضة ولصق الأشجار، ويندفعون نحوه بكل ما بقي لديهم من قوى هدّها الزمن والعبث والإهمال، طالبين المساعدة والغوث والإنقاذ... طالبين المدد والعون.
الرجل ليس ولياً من أولياء الله الصالحين ذوي الكرامات والصلة، أو على الأقل لا يدعي ذلك، كما أنه ليس من المحسنين الذين يوزعون الصدقات على المشاع، فتضرع إليهم الأكف طالبة الإحسان، وليس وزيراً أو مسؤولاً كبيراً يملك سلطة الحل واتخاذ القرار، فيرفع الظلم، أو يعيد الحق، أو ينظم شؤون الناس ويرعى مصالحهم.
من الرجل إذن؟ ولماذا يتكرر هذا المشهد في قلب تلك العاصمة العريقة قبل صلاة كل جمعة من دون تغيير تقريباً، اللهم إلا زيادة أعداد المنتظرين المندفعين الملهوفين إلى عطف صاحبنا وحنانه؟
الرجل ليس إلا مذيعاً. نعم هو فقط مذيع؛ لكن تطورات ما في أحوال الناس والسياسة والتكنولوجيا جعلت منه نجماً مضيئاً، وعلماً زاهراً، وباباً مفتوحاً على السلطة والنفوذ، وقدرة لا تنفد على منح الخلاص وإصلاح الأحوال، من خلال المساحة التي يحتلها في هذا الجهاز الخطير... التلفزيون.
على أبواب مقار الإذاعة والتلفزيون في غير عاصمة عربية سيمكنك دائماً أن تجد أناساً، أغلبهم من البسطاء، يقفون حاملين أوراقاً، مطالبين بلقاء مذيع أو مذيعة بعينها؛ وإذ يُصدوا غالباً؛ فهم يكتفون بالانتظار، ربما يصطادون بغيتهم عند خروج الرجل من المبنى أو ولوج الست إليه.
وذات مرة أخبرتني مذيعة شهيرة أن «قلبها يُكوى بالنار»؛ إذ تتسلم جوالاً مليئاً بآلام الناس وهمومهم يومياً تقريباً، فيما طاقتها الإنسانية وطاقة التشغيل ببرنامجها لا تستوعب واحداً في المئة مما يحويه.
ومذيعة أخرى كرّست حلقة من برنامجها الأسبوعي لمناقشة مشكلة سجينة عجزت عن دفع دين، فسُجنت هي ورضعيتها، وفقدت زوجها وبنتاً أكبر، فما كان من الجمهور إلا أن تبرع بأضعاف الدين، فتم تسديده، وخرجت المرأة إلى حياة جديدة، وتلقت أموالاً أعانتها على العيش بكرامة، بعدما كانت تتنظر قضاء سنوات أخرى في محبسها؛ الأمر الذي أدى إلى استلام تلك المذيعة ما لا يقل عن ألف «ملحمة» تحكي مشكلات مشابهة، وتنتظر «الخلاص التليفزيوني».
وهذا الذي أذاع على الهواء مشكلة طفلة تعاني مرضاً خطيراً، وتحتاج جراحة في الخارج صعبة ومكلفة؛ فإذا بمزاد الخير ينفتح، وتنهال التبرعات من المحسنين، بعدما أعلن صاحبنا أنه لن ينهي برنامجه حتى يجمع المبلغ المرصود. وقد حصل، وجاء المبلغ، بل فاض الخير فزاد.
ليس الأمر هبات وإحساناً وكفى، فثمة كرامة أيضاً يمكن أن تستعاد على الهواء. فهذا الذي تعرض للتعذيب وهتك العرض، كما قال، وصل إلى المذيع الشهير، فكان ضيفاً في حلقة من البرنامج المميز ذي نسب المشاهدة العليا في البلد، فتفجرت قضيته، وبلغت من الشهرة ما طالت به عنان السماء. ولما كان الموضوع مؤثراً، وأطرق الشاكي باكياً وحكى كيف قهره الرجال في قسم الشرطة واستباحوا كرامته، ولما انهالت الاتصالات لاعنة الظلم وحاميه، ومناصرة الحق والمظلوم، فقد فًتح تحقيق في الواقعة، أشرف عليه الرأس الكبير في النظام القضائي بنفسه، وعوقب الجناة، واسترد الشاكي كرامته، ورُد إليه اعتباره.
ما الذي حدث؟ ولماذا بات التليفزيون وهؤلاء الإعلاميون النجوم تحديداً يؤدون هذه الأدوار، التي جعلت من الإعلام أكثر من سلطة رابعة؛ بل سلطة عابرة للسلطات، مفتئتة عليها أحياناً، وذات سطوة واستبداد وأدوات قمع في أحيان أخرى.
الحاصل أن الدولة المستبدة آخذة في التراجع عن امتلاك أسباب القوة الصلبة؛ فلا هي قادرة على ممارسة القمع سراً بعد الانكشاف التكنولوجي العام، ولا هي محتملة تبعات فضح أساليبها أمام الرأي العام في الداخل والخارج. وهي إلى ذلك طامحة، كعهدها دائماً، إلى صورة الكيان المشرق البطل الخالي من الأخطاء إن أمكن، والكاشف لها والمعاقب والضارب المخالفين بيد من حديد في حال عرفها الناس وتحدثوا عنها.
كما أن الانسداد السياسي، وفقدان الناس الثقة في أي هيكل من الهياكل القائمة فعلاً، وعجزهم عن الوصول إلى فاعليات النظام الحكومي والمدني المزروعة برسوخ في الأرض، جعلهم يلجؤون إلى نظام آخر على الهواء بدا أكثر فاعلية ونفاذاً وسرعة في ردة الفعل وحل المشكلات.
جميل جداً أن تضاف إلى مزايا الإعلام ووظائفه وظيفة جديدة؛ هي: الحل الفوري لمشكلات الناس السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والعاطفية إن أمكن، بعد تحقيقها والفصل فيها على الهواء مباشرة.
لكن الإشكال الذي ينشأ أن الإعلام يتحول إلى سلطة أكبر من كل السلطات، قادرة على العبور خلالها، وتغيير إيقاع أدائها وفق توقيتات برامج الهواء. كما أن المذيع النجم وزميلته المذيعة المتألقة تحولا أحياناً إلى رجل دولة، أو مسؤول حكومي، أو قاض، أو بنك ضخم لإسعاد المعوزين والفقراء... والأخطر أنهما باتا «باباً للخلاص»... فوراً وعلى الهواء.
* كاتب مصري