ديفيد الكويتي!

نشر في 04-11-2007
آخر تحديث 04-11-2007 | 00:00
 د. ساجد العبدلي

من الجميل أن يموت الإنسان شهيداً لأجل وطنه، لكنه أمر قد لا يسنح لكل إنسان أن ينال شرفه، لذا فالأجمل حقاً أن يكرس الإنسان حياته لأجل وطنه، وهذا هو الحب الحقيقي وهذا هو الولاء الحقيقي، الذي هو أمر متاح للناس كلهم.

جلس إلى جانبي في الطائرة، كان شاباً طويلاً وسيماً يرتدي بذلة، ولم تكن هيئته وملامحه تدل على أنه كويتي. بعد محادثة قصيرة سألته عن سبب زيارته للكويت فأجاب بأنه يعمل هنا. قابلني بذات السؤال فقلت له بأني كويتي، تبسم ضاحكا وهو يقول: هل تصدق بأني قد أكون كويتيا أكثر منك! فاجأني تعليقه، فقلت: كيف؟ قال: واضح أني أكبر منك في العمر، لقد ولدت في شرق قبل أكثر من خمس وأربعين سنة وتنفست هواء الكويت ومشيت على ترابها لسنوات طويلة، وتلقيت بعدها تعليمي كله فيها، حتى خرجت مع من خرجوا في فترة الغزو والتحرير، بعد أن تم تصنيفنا على أننا رعايا ما سمي آنذاك دول الضد. قصدت أميركا، وهناك استقر بي المقام فتزوجت وحصلت على الجنسية الأميركية وتحول اسمي من داوود إلى ديفيد، ودار الزمان لأعود إلى الكويت وأتسلم رئاسة إحدى الإدارات في شركة من شركات الاستثمار.

قضى ديفيد بقية الحوار معي في التحسر على ما آلت إليه أحوال بلده الكويت على المستوى الاقتصادي والإداري.

يقول إن الكويت لا تعاني أي مشكلة في القدرات المالية، ولا في نقص الكفاءات والكوادر، ولا ينقص أبناءها الذكاء حتى تصبح واحدة من أكثر دول العالم تطوراً ورقياً، لكن ما ينقصها الإرادة الصادقة والإخلاص من أبنائها تجاهها والعمل الدؤوب للوصول بها إلى ذلك المستوى.

ما قاله لي داوود، ذلك العربي الذي خرج من الكويت مغضوباً عليه، وعاد إليها ديفيد الأميركي الذي صارت بوابات المطارات العربية «تضرب له تعظيم سلام»، جعلني أسترجع من ذاكرتي كلمات قرأتها في أحد المنتديات بما معناه بأن الولاء لأي بلد ليس كلمة تقال في العلن، ولا ورقة يحملها المرء في جيبه، وإنما هو فعل إرادي وممارسة حقيقية.

الولاء أن تحترم القانون وتتبع تعليماته حتى ولو كنت لا تخشى العقوبة، وحتى لو لم يكن يراك أحد. الولاء أن تعطي وتخلص في عملك حتى لو لم يسألك أحد. الولاء أن تقدم مصلحة بلادك على مصلحتك الشخصية. هذا هو الولاء.

جماعة «نويّر» الطلابية البيئية ترفع في أنشطتها يافطة كتب عليها «جميل أن يموت الإنسان لأجل وطنه، لكن الأجمل أن يحيا لأجل هذا الوطن». صدق القائل، ففعلاً من الجميل أن يموت الإنسان شهيداً لأجل وطنه، لكنه أمر قد لا يسنح لكل إنسان أن ينال شرفه، لذا فالأجمل حقاً أن يكرس الإنسان حياته لأجل وطنه، وهذا هو الحب الحقيقي وهذا هو الولاء الحقيقي، الذي هو أمر متاح للناس كلهم.

الولاء لا علاقة له بالأصل لأنه ليس عرقاً أو دماً يعود بالمرء إلى عائلة أو عشيرة أو قبيلة تعيش على هذه الأرض منذ قديم الزمان، وإنما هو شيء أكبر وأعمق. لذا فلينظر كل واحد منا إلى نفسه وإلى مقادير عطائه وإخلاصه في عمله، وإلى مقادير احترامه لقوانين بلده ونظمها، ومقادير انشغاله بهمومها وآلامها، وحرصه على السعي إلى تنفيذ آمالها، وحينها سيعرف أين تقع درجته على سلم الولاء.

هذا هو المعيار الأهم في الحكم على الناس وعلى قيمتهم لوطنهم وعلى استحقاقهم للحصول على اسمه، لأنه ما يفيد الوطن في رخائه وشدته وينفعه، وأما بقية الأشياء فلا قيمة لها.

back to top