خلال فترة الثمانينيات من القرن الماضي، ازدهر الشعر الحديث، وفرض نفسه بقوة على خارطة الشعر الشعبي، وبدأت تكثر المحاولات من الشعراء لكتابة القصيدة الحديثة، كما بدأ الجمهور ينصت إليها، ويستمتع بها، ويتفاعل معها، مما أكسبها متابعة جادة ومشجعة لتطورها، وأعتقد أن ما ساعد القصيدة الحديثة على الانتشار في ذلك الوقت، هو المناخ السياسي والثقافي السائد حينئذ، حيث كان أفق الحريات العامة أكثر رحابة مما كان عليه، وكانت حرية الجدل الفكري والثقافي حاضرة في الحياة اليومية للناس.

Ad

ضمن هذه الأجواء المحفزة للإبداع والتجريب، بدأت القصيدة الحديثة تنمو ويبزغ نورها، إلا أن ذلك لم يستمر، فقد جاء الغزو العراقي للكويت، فقلب المقاييس كلها، فمن بعض ما أصاب ذلك الحدث أصاب حال الانفتاح الفكري نحو الآخر والعالم الخارجي، التي كانت قد بدأت للتو تؤتي ثمارها في منطقة الخليج، فأدى ذلك إلى الانكفاء على الذات، والتقوقع في جزر معزولة، وتراجع سقف الحريات العامة، وبدلا من السير إلى المستقبل، أصبحنا نتجه إلى الماضي بحثا عما يعزز ثقتنا في أنفسنا من خلال تاريخنا، وتراثنا، لتأكيد هويتنا!! وسادت حال عدم الثقة بكل ما حولنا، وبالثقافات الجديدة علينا، والريبة بكل ما سوانا، وانسحب ذلك -كمحصّلة- على النتاج الإبداعي من شعر وفن وغيره، قأصبحنا لا نثق إلا فينا، ولا نصغي إلا للإبداع الذي يوثّق علاقتنا بماضينا، ويسوّق «أصالتنا»!!

من هنا بدأ تراجع مدّ القصيدة الحديثة، وانحسارها،حتى أن بعض الشعراء الذين تمسحوا بثيابها في فترات سابقة، بدأوا في التبرؤ من تلك المعصية، وإعلان توبتهم، بل ظهرت القصيدة النبطية الموغلة في قبليتها، كاستخدام المفردات الخاصة بقبيلة الشاعر، أو طريقة لفظ قبيلته لبعض الحروف.

وهناك عامل آخر ساهم في تراجع القصيدة الحديثة، هو انتقال مركز القيادة الإعلامية من الكويت إلى السعودية، بحكم قيادتها للتصدي للغزو القادم من الشمال، فأُقّر لها بالقيادة السياسية على مستوى المنطقة، وصاحب ذلك بالطبع القيادة الإعلامية، وعادة ما يفرض الإعلام السائد - على اختلاف الأزمنة والأماكن - ثقافته وقناعاته، وقد فرض الإعلام السعودي القصيدة النبطية على الساحة الادبية والغنائية أيضا، تمشيا مع ذائقة المجتمع السعودي - والنجدي تحديدا - ليس في منطقة الخليج فقط، وإنما تعدى ذلك إلى أن وصل بعض الدول العربية، والأوروبية أيضا!!

كذلك هناك عامل آخر ساهم في وقف تنامي الشعر العامي الحديث، هو أن الشعر العامي استخدم كورقة في يد السلطة السياسية، لمحاربة شعر الفصحى في بعض دول الخليج، إيمانا من هذه السلطة أن شعر الفصحى، خصوصا الشعر الحديث منه في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، هو شعر تحريضي، فكان لابد من لجمه وتغييبه عن المشهد الثقافي، وذلك عن طريق إفراغ المسرح للقصيدة العامية، وتشجيعها على تمثيل مسرحية من ممثل وحيد من بطولتها، على اعتبار أن القصيدة العامية لا تشكل أي خطر يُذكر، فهي في الغالب لا تحمل سوى المضامين الغزلية، والعاطفية، إلا أن فتح الأبواب على مصاريعها للشعر العامي في تلك الفترة بهدف القضاء على خطر شعر الفصحى الحديث، سمح أيضا لقصيدة الشعر العامي الحديث بالمرور عبر تلك الابواب، ثم اكتشفت السلطة الرقابية أن هذه القصيدة أشد خطرا من قصيدة شعر الفصحى الحديث، لأنها تحمل نفس همومها، وفي ذات الوقت يمكن فهمها من قبل جميع شرائح المجتمع لأنها تتحدث بلهجتهم وتحاكي أفكارهم، وبالتالي تأثيرها النفسي كان أعمق وأقوى، فكان لابد من الالتفات إلى هذه القصيدة، عبر «فلترة» الأبواب والنوافذ التي يمر منها الشعر العامي، وهذا بالتأكيد أدى إلى تراجع القصيدة الحديثة وانحسارها، وفي أفضل الأحوال «تنقيتها» من الشوائب، من خلال تفتيش حقائبها، وملابسها الداخلية، وتحليل «روج» شفتيها.