أثبتت الأحداث المتتالية أن دمشق كانت على خطأ في كثير من الأمور، فصرفت النظر عن تأييد ترشيح ميشيل إده واستعدت بدورها للمواجهة على طريقتها الخاصة، فكان التجديد لولاية إميل لحود ثلاث سنوات أخرى فسحة من الزمن تسعى خلالها دمشق إلى إعادة ترتيب شؤون البيت اللبناني على هواها. في نهاية العام 2004، وقبل أن تبدأ الأزمة الكبرى بإعلان الرغبة في التجديد للرئيس السابق إميل لحود ثلاث سنوات إضافة إلى السنوات الست، وهي فترة حكم رئيس الجمهورية، التقى لحود بقائد الجيش العماد ميشيل سليمان. قيل وقتها إن لحود استمزج رأي العماد في إمكان طرح اسمه كخليفة له، وقيل أيضاً إن لحود رد متسائلاً حول موقف دمشق، وكان جواب لحود أن دمشق لا تمانع، وقيل وقتها إن ميشيل سليمان أظهر تململاً واضحاً حول فكرة ترشيحه لرئاسة الجمهورية، وإن هذا التململ جاء نتيجة تمازج الخوف والرغبة معاً. لكن عنصر الخوف كان أكبر من الرغبة في حينه، وقد عبّر سليمان عن خوفه هذا عندما قال للحود: «إن استلام رئاسة الجمهورية في ظل هذا الجو المشحون لا يتلاءم مع برنامجي الشخصي بعد إنهاء فترة خدمتي القانونية في مؤسسة الجيش، فأنا، كما تعرف أميل إلى الحياة الهادئة، وأنتظر فترة التقاعد بفارغ الصبر، هذا بالإضافة إلى أنني لا أمتلك موهبة التعامل مع السياسيين، وأنت يا فخامة الرئيس قد خبرت هؤلاء في العمق وعن كثب طيلة فترة السنوات الست الماضية، وتعرف بدقة أي نوع من السياسيين هم».
قيل أيضاً إن دمشق، كانت في ذلك الوقت في مركز الناخب الأوحد لرئاسة الجمهورية اللبنانية، وقد اطلعت على فحوى هذا الحديث الخاص بين رئيس الجمهورية وقائد الجيش، وكانت دمشق في خضمّ البحث عن بديل للحود عندما تنتهي ولايته، فاستعرضت أسماء المرشحين بكثير من الدقة للعثور على مرشح يتناسب مع المواصفات التي وضعتها، وعلى مدى أسابيع من هذا الاستعراض غير المعلن، وضعت دمشق لائحة تحتوي على عدة أسماء من السياسيين الموارنة تتوافر فيهم المواصفات المطلوبة، وكان الوزير السابق ميشيل إده على رأس هذه القائمة الدمشقية، فهو يمتلك المواصفات التي تجعل دمشق تنام الليل ملء جفونها مطمئنة على صيانة وجودها السياسي والعسكري. فالرجل لاغبار على قناعته بضرورة استمرار العلاقات المتينة والمميزة بين بيروت ودمشق، يضاف إلى ذلك أنه حاصل على بركة مؤسسة الفاتيكان الكاثوليكية وكذلك مؤسسة البطريركية المارونية في بكركي، هذه البطريركية التي كانت دمشق تسعى إلى كسب ودّها منذ التسعينيات، وقد قامت بجهود حثيثة طيلة هذه الفترة لتحقيق ذلك، لكن البطريرك صفير، المعروف بعناده السياسي، رفض كل دعوة، رسمية وغير رسمية، وُجهت إليه لزيارة دمشق، وفضّل عدم الانضمام إلى ذلك الطابور السياسي الذي كان يتزاحم على حدود البلدين صباح كل يوم ومساءه.
أكثر من ذلك، فإن باريس كانت -وأعتقد أنها لاتزال- تنظر إلى ميشيل إده كفرنكوفوني أول، وتثق في قدرته في أن يؤدي دوراً نشيطاً في تقوية العلاقات الفرنسية-السورية، التي كانت دمشق – ولاتزال- تعلق أهمية قصوى عليها في لعبة التوازن بين النفوذ الأميركي الذي ترسخ وجوده في المنطقة بعد غزو العراق، وبين الطموح الأوروبي، ممثلاً بفرنسا، في الحفاظ على موطئ قدم لها، ونتيجة لهذه المعطيات السياسية التي كانت موجودة في ذلك الحين، يقال إن دمشق قد أعطت لبيروت الضوء الأخضر في التركيز على ميشيل إده وتهيئته لخلافة لحود في رئاسة الجمهورية بالرغم من تململ رفيق الحريري آنذاك، والذي لم تعره دمشق كثيراً من الانتباه، نتيجة لوثوقها بأن «الرفيق» رفيق مضمون، وأن «سعره» السياسي معروف، وأن بمقدور دمشق أن تدفع هذا السعر بكل طيب خاطر.
أثبتت الأحداث المتتالية أن دمشق كانت على خطأ في هذا الأمر وفي غيره أيضاً، وأنها كانت واهمة في البقاء في لبنان سياسياً وعسكرياً. أولى هذه الأحداث صدور قرار مجلس الأمن الذي يحمل الرقم 1559 والذي طالب بإنهاء الاحتلال العسكري السوري للبنان، وبقطع الطريق على تدخلاتها في إدارة الشؤون السياسية اللبنانية. قيل وقتها إن دمشق حمّلت الحريري وجماعته مسؤولية صدور هذا القرار الأممي، مما دفعها إلى القناعة التامة بأن العاصفة قادمة وبقوة، وعليها أن تستعد لمواجهتها، خاصة بعد أن حصلت على معلومات، خاطئة أم صائبة لا فرق، عن الدور الخفي الذي لعبه الرئيس المقتول رفيق الحريري من خلف الستار في استثمار علاقته الدولية والعربية الواسعة في تشجيع مجلس الأمن الدولي في اتخاذ قراره هذا. واعتبرت دمشق صدور هذا القرار بمنزلة إعلان حرب على وجودها ونفوذها في لبنان. ودمشق لها أسلوبها الخاص في كل ما يتعلق بالحروب في لبنان. ومما زاد في قناعة دمشق بالدور المزدوج للحريري بالعمل ضد مصالحها، ظهور لائحة تضم ثلاثة أسماء مرشحين موارنة من حلقة مستشاري الحريري هم: جوني عبدو، رئيس جهاز المخابرات العسكرية الأسبق والسفير السابق في باريس وواحد من أشد أعداء دمشق، وسمير فرنجية النائب الحالي عن زغرتا، والنائب السابق غطاس خوري، جراح القلب الشهير الذي خسره الطب ولم تربحه السياسة. وفي أحاديثه الخاصة، كان الحريري الأب يميل إلى تأييد ترشيح الطبيب الجراح.
الخطأ الجسيم الذي ارتكبه الحريري الأب هو ثقته الزائدة بنفسه وبمقدرته على إقناع دمشق بواحد من هؤلاء الفرسان الثلاثة، فدمشق كانت، في تلك الفترة، بيته الثاني فهو لم يكن يخرج من لبنان مسافراً إلا عن طريق دمشق ولا يعود إليه إلا عن طريقها دمشق، مما دفعه إلى مصارحة الرئيس بشار الأسد ببرنامجه لملء مركز رئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية لحود. والخطأ الأكثر فداحة الذي ارتكبه الحريري الأب هو تقصيره في معرفة اتجاهات الريح لدى دمشق التي كانت تنظر إلى تنامي حركته الشعبية السنية اللبنانية بكثير من الخوف والحذر من أن تنتقل «العدوى» إلى الشارع السني السوري. عندها صرفت دمشق النظر عن تأييد ترشيح ميشيل إده واستعدت بدورها للمواجهة على طريقتها الخاصة فكان التجديد لولاية إميل لحود ثلاث سنوات أخرى كفسحة من الزمن تسعى خلالها دمشق إلى إعادة ترتيب شؤون البيت اللبناني على هواها. يقال إن لحود، عندما عُرضَت عليه فكرة التمديد تردد في قبولها، لكنه تحت ضغط ظروف عديدة قَبـِل بها، وكان التمديد، وكانت بداية الكارثة في لبنان.
ما يجري اليوم، وما يمكن أن يحدث مستقبلاً، له علاقة مباشرة بما ذكر أعلاه. والحديث عن إيجاد تسوية ما قد تعيد «السيناريو» إلى بدايته المؤسفة، لكن الواضح أن مرشح الإنقاذ الوحيد للبنان العماد ميشيل سليمان قد سقط في الامتحان الشفهي والخطي معاً وأثبت أنه كان صادقاً في قوله للحود عندما فاتحه بموضوع ترشيحه: «أنا لا أمتلك موهبة التعامل مع السياسيين».
* كاتب لبناني