Ad

من أعز الأحلام أن يجري الاحتفال بعيد النيروز، كما أعياد السوريين الأخرى كلها، وهذا لا يحتاج فقط إلى قرار سياسي، بل يحتاج إلى قرار «قلبي» يرمم شيئا مما تكسر، ولو كنا قد احتفلنا بالنيروز سوية طوال السنوات الماضية، ولو كنا توجهنا إلى بعضنا بعضاً، لربما كان نيروز اليوم أجمل منه في الأمس.

في مثل هذه الأيام قبل سنوات أربع، كنا مجموعة من النشطاء والصحافيين والفضوليين، نتوجه في رحلة طويلة من دمشق، تمتد ساعات تسع إلى مدينة القامشلي. كان بيننا الشباب والكهول وكبار السن، وأغلبيتنا العظمى، لم يسبق لها أن وطأت أرض ذلك المكان البعيد. على الأغلب، فإن هذا ما أضفى على تلك الرحلة طابع «الإثارة» وسحر المجهول، في الوقت الذي لم تكن فيه رحلة استكشاف أواستجمام. كانت الرحلة مخصصة للوقوف على آثار الأحداث التي حصلت في الرابع عشر من الشهر نفسه بين مواطنين أكراد هم أغلبية سكان تلك المنطقة، والسلطات السورية، وأدت إلى مقتل وجرح العشرات، وقيام مظاهرات واعتصامات في غير مكان من أماكن وجود المواطنين الأكراد في سورية. وكانت محاولة لفهم أكثر قرباً من حقيقة الأمور، وأيضا، لإبداء التضامن من قبل جانب من «المجتمع المدني» في سورية، مع عائلات الضحايا والمتضررين من الأحداث إياها.

كانت المدينة كئيبة للغاية. ما أن يحل المساء حتى يغدو هنالك شبه حظر تجول، في النهار، تبدو بوضوح الأضرار المادية في المباني وواجهات المحال والطرقات، ومنذ الصباح وحتى مغيب الشمس، يمضي اليوم مسرعا في لقاءات وزيارات لا تنتهي، كل من المواطنين الأكراد، يعيد رواية الأحداث بطريقته، يعدد الإصابات البشرية والخسائر المادية في محيط عائلته ومعارفه. وسيل من الشكوى والألم يبدأ من الراهن ثم ينتقل سريعا إلى أكثر من عقود أربعة مضت، يوم أجري الإحصاء الاستثنائي في الحسكة، الذي جرد بموجبه آلاف الأكراد من جنسيتهم السورية، وغدوا، وغدا أبناؤهم وأحفادهم، مصنفين تحت خانة «الأجانب» أو«مكتومي القيد».

خارج المدينة البائسة، تمتد مساحات لا متناهية من الأخضر الناعم، الشيء الوحيد الذي كان يدفع بالربيع إلى الذاكرة من جديد. بيوت طينية متشابهة الشكل والحجم تتناثر هنا وهناك، وعلى التلال الصغيرة، تجمع أطفال صغار حول أعمدة الدخان المتصاعدة، الرمز الأسطوري لأعياد النيروز الربيعية، والشيء الوحيد الذي كان يدفع بعيد النيروز إلى الذاكرة من جديد.

في نقطة ما على الحدود السورية التركية، بدا المشهد أخاذاً. كنا نجلس في مقهى صغير، يطل على نهر دجلة، يخال المرء أن باستطاعته مصافحة النهر بكف يده بشيء من الانحناء، لكنه لا يمسك إلا بالفراغ، الشبان الأكراد في المقهى، يلوحون بأيديهم إلى نقاط بعيدة تكاد لا ترى، بينما يتحدثون باللغة الكردية على الهاتف. شرحوا لنا فيما بعد، أنهم يتحدثون مع أصدقائهم الأكراد على الجانب التركي، ويتنافسون، من يعلو دخان شعلته أكثر من الآخر، إنه النيروز الجميل.

كان إحساسا غريبا، ما يولده ذلك كله، من أعمدة الدخان على جانبي الحدود، إلى الأيدي التي تلوح، إلى غربتنا نحن عن مجمل هذه الطقوس وتلك المفردات. لم أفهم أبدا، لماذا لم يسبق لمعظمنا زيارة هذا المكان، ولماذا لم يسبق لنا، الاشتراك ولو مرة في إحدى احتفالات النيروز المقامة في مدننا، كدمشق وحلب. وما دمنا كأغلبية وأقلية، تجمعنا معاناة واحدة من الافتقار للعيش بحرية وفي ظل شيء من العدالة والمساواة. أي حاجز ارتفع بيننا على مدار سنوات طويلة، وأي ثقة اهتزت، وأي عزلة تجاه بعضنا بعضا، فرضت علينا حينا وعززنا سياجها حينا آخر، ما بين المخاوف والشكوك والحذر من «نزعات انفصالية» في الجانب العربي، وإحساس بالتمييز السلبي والتهميش وعدم الاعتراف، ومزيد من الانعزالية في الجانب الكردي.

في ظل إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي، اجتمعت أطياف عدة للمعارضة العربية والكردية في سورية، والدعوة إلى رفع المظالم الخاصة بالأقلية الكردية-الأقلية القومية الأكبر في سورية، بدءا من منح الجنسية للمجردين منها، هي عنوان ثابت في الحراك الديموقراطي السوري.

لكن انتظار القرار السياسي برفع هذه المظالم، يدعو إلى اليأس، وهو في النهاية جزء لا يتجزأ من قرار أوسع يقضي بالاستجابة لجملة مطالب تتعلق بالحريات والحقوق، لا يبدو أن تحققها قريب، من السخرية، الانتظار حتى نحظى بالديموقراطية والحرية، كي نفكر أن نحدث ثقوبا في الجدار السميك.

مرة أخرى، يأتي النيروز محملاً بالقتلى والجنازات، ثلاثة قتلى والعديد من الجرحى، هي حصيلة هذا العام من الصدامات ما بين الأكراد والسلطات السورية في القامشلي، عشية الاحتفال بالعيد. مرة أخرى، لا نتوقع أن تحقيقا نزيها يفتح في هذه الحادثة، ولا أن نضمن، أن إطلاق نار ضد المواطنين، لن يحصل في مناسبات مشابهة.

معاناة الأكراد السوريين مستمرة، لكن للنيروز قصة أخرى، ومن أعز الأحلام، أن يجري الاحتفال بهذا العيد، كما أعياد السوريين الأخرى كلها، هذا لا يحتاج فقط إلى قرار سياسي، بل يحتاج إلى قرار «قلبي» يرمم شيئا مما تكسر، ولو كنا قد احتفلنا بالنيروز سوية طوال السنوات الماضية، ولو كنا توجهنا إلى بعضنا بعضاً خارج إطار الاجتماعات والبيانات الصحفية، لو فعلنا ذلك بدلا من التوجه سوية في اتجاه آخر مطالبين وشاكين، لربما كان نيروز اليوم أجمل منه في الأمس.

* كاتبة سورية