قوانين الطبيعة والمبادئ الإنسانية العامة هي التي تتحكم بمسار التاريخ، ويسري مبدأ التحقق على الجميع، الطبيعة تاريخ متراكم، والمجتمع تراكم تاريخي، لذلك استعمل القرآن قصص الأنبياء كعبرة وعظة على صدق المعاني بدليل تطبيقها في التاريخ.1 - هل الخطاب الديني له معنى من داخله أم من خارجه؟ ليس للخطاب الديني معنى في داخله، فالقرآن، نموذج للخطاب، كتاب مسطور لا ينطق، إنما ينطق به الرجال، الخطاب المدون حروف، كلمات وأفعال وأدوات ربط، مرئية بالعين، مدونة باليد، ومسطورة على صحف، يعطيها القارئ معناها بما لديه من قدرات لغوية ومعرفية وبواعث ودوافع ومواقف واتجاهات قصدية، النص مقروء في حاجة إلى قارئ، وكل قارئ له أهدافه ومقاصده، وتختلف القراءات لنص واحد، لذلك نشأ علم التأويل في كل الحضارات، وهي ليست فقط قضية لغوية نظراً لوجود الحقيقة والمجاز، والظاهر والمؤول، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمبين، والأمر والنهي، والخاص والعام. لذلك اشتهر علم اللسانيات، وأصبح أهم المناهج في تحليل الخطاب، بل هي قضية مصالح طبقية، وصراعات سياسية، فصراع التأويلات هو صراع بين قوى متصارعة، كل منها يجذب النص لحسابه ويتخذه سلاحا ضد الخصوم.
2 - هل المعاني نازلة أم صاعدة، مستنبطة أم مستقراة؟ يتصور اللغويون والمفسرون أن معاني النص مستنبطة منه طبقا لقواعد اللغة، والحقيقة أن معاني الألفاظ معانٍ قاموسية كألفاظ متناثرة دون سياق، فالسياق هو الذي يعطي المعنى وليس اللفظ، الكل وليس الجزء، والسياق ليس عبارة أو مجموعة من العبارات بل هو الموقف الكلي للنص الذي يعبر عن الرؤية الكلية للعالم عند المؤلف. واللغة متشابهة في حاجة إلى أحكام، والتشابه في النص جزء من بنيته، إذ إنه يخاطب عقولا متفاوتة في ثقافتها وفي درجة الإحساس اللغوي والأدبي مما جعل البعض يفترض مستويات لفهم النص وهي في الحقيقة أعماق متعددة في الشعور، ويروي «أنزل القرآن على سبعة أحرف»، والأحرف ليست لهجات القراءة فقط بل تعدد معاني النص ومستويات عمق الفهم، ولما كان النص تصويراً لموقف وتعبيراً عن واقع فإن العودة إلى «الموقف الحياتي» بتعبير بولتمان هو الكاشف لأبعاد النص، لذلك وضع القدماء العلم بـ«أسباب النزول» كشرط لمعرفة الأحكام الشرعية الواردة في النص. ونظرا لإمكانية تعارض النصوص لانتقاء كل مفسر لما يهوى ويوافق أغراضه الخاصة لزم تحليل التجارب الحية كأساس لفهم النص، التجارب الفردية والمشتركة. وبهذه الطريقة قد يتطابق المعنى المستنبط من النص مع الدلالة الصاعدة مع التجارب الحية فيعطي ضمانا للصدق وأساسا لليقين. وإذا كان الواقع إحصائيا كان فهم دلالته أدق متجاوزا الانطباع السريع وتدخل الأهواء في الحكم عليه. فآية «عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم» لا تفهم فقط عن طريق التحليل اللغوي بل أيضا عن طريق التجارب الحية التي يعيشها المفسر في حياته اليومية. والمشاهدات والمجربات والوجدانيات ومجرى العادات جزء من مادة العلم طبقا للقدماء. والصورة الفنية لذلك، الماء الذي ينزل من السماء فتهتز الأرض وتربو، وينبت من كل زوج بهيج، فالنازل يقابله الصاعد، وكثيراً ما ذكر القرآن «أفلا تفكرون» أو «أفلا تعقلون» إشارة إلى المنهج الاستنباطي أو «أفلا تنظرون» إشارة إلى المنهج التجريبي. ومازال الغرب يزهو أنه واضع المنهج التجريبي والمنهج الإحصائي في مقابل المناهج الاستنباطية في المنطق القديم.
3 - هل معاني الخطاب تعارض بداهات العقول؟ ولا تتعارض معاني الخطاب من تحليل اللغة ومناهج الاستنباط أو من تحليل التجارب الحية ومناهج الاستقراء مع بداهة العقل أو بداءة العقل. فالبداهة بداءة قبل أن تشوهها أوهام الكهف والمسرح والسوق وغيرها التي وصفها بيكون والتي تعبر عن الأفكار الشائعة في كل عصر. والبداءة بداية لا تسبقها أحكام أخرى، لذلك جعل الفقهاء العقل منوط التكليف. وجعل الأصوليون العقل أساس النقل، وكتب ابن تيمية «موافقة صريح المنقول لصريح المعقول» و«درء تعارض النقل والعقل». ورد المتكلمون على «المعارض العقلي» من أجل إثبات الحكم، وجعل الفلاسفة الوحي والعقل سيين. فالنظر واجب بالشرع، والحكمة والشريعة متصاحبتان بالجوهر، ومتحابتان بالغريزة. والعقل أول ما خلق الله طبقا للحديث القدسي الشهير «أول ما خلق الله خلق العقل». والدليل النقلي وحده ظني، ولا يتحول إلى يقين إلا بالدليل العقلي. وكما قال الايجي في «المواقف»: إن كل الحجج النقلية حتى لو تضافرت لإثبات شيء أنه صحيح ما أثبتته ولظل ظنياً، ولا يتحول إلى يقين إلا بحجة عقلية ولو واحدة. وصور ابن سينا وابن طفيل تطابق العقل والوحي في قصة «حي بن يقظان». وتحدث المعتزلة عن الواجبات العقلية مثل الخلق والتكليف، فالخلق أولى من عدم الخلق، والتكليف أولى من الفوضى والعبث، ومن ثم، كل إدخال في الأساطير والخزعبلات وما لا يصدقه العقل ضمن الخطاب الديني فإن المعارض العقلي يكون أقوى منه. فيقع الخطاب على أذن صماء. ويفقد الخطاب الديني أثره في الإقناع.
4 - هل معاني الخطاب تعارض المصالح العامة وحقائق الواقع وقوانين التاريخ؟ ومهما بلغت دقة المعاني المستنبطة من النص عن طريق تحليل اللغة ولكنها تتعارض مع حقائق الواقع مثل قوانين الطبيعة أو المصالح العامة أو المبادئ الإنسانية مثل الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية والهوية الثقافية والوطنية والالتزام وغيرها مما يتفق عليه العقلاء فإنها تظل معاني في الهواء، خارج نطاق التأثير والفاعلية. فالواقع أبلغ من كل نظرية، وقوانين الطبيعة مطردة لا تخرق إلا بقانون طبيعي آخر أكثر شمولا، فلا معجزات في الطبيعة، والمعجزة كما عرّفها اسبينوزا هي حادثة طبيعية تحدث طبقا لقانون طبيعي مازال العلم يجهله. وبتقدم العلم تـُفهم قوانين وقوع المعجزات، والمجتمع كالطبيعة له قوانينه الاجتماعية، كما أن للكون قوانينه الطبيعية، فكل معنى للنص يعارض قوانين الثبات أو الحراك الاجتماعي يكون معنى ظنياً حتى لو كان متفقاً مع قواعد اللغة فإنه يعارض قوانين المجتمع. فالظلم لا يدوم، والعدل يجبه، واللامساواة بين البشر عرض طارئ، والمساواة في الحقوق والواجبات قاعدة اجتماعية، والقهر يزول لمصلحة الحرية «مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ». وقوانين الطبيعة والمبادئ الإنسانية العامة هي التي تتحكم بمسار التاريخ، ويسري مبدأ التحقق على الجميع، الطبيعة تاريخ متراكم. والمجتمع تراكم تاريخي، لذلك استعمل القرآن قصص الأنبياء كعبرة وعظة على صدق المعاني بدليل تطبيقها في التاريخ. ظلم فرعون وتألهه، نهاية عبادة الأصنام على يد إبراهيم، وجهل ابن نوح بقوانين الطفو، وحدود غيرة إخوة يوسف، والتيه جزاء عصيان الأنبياء «فانظرا كيف كان عاقبة المتقين».
* كاتب مصري