لم تزل سطور وثيقة ترشيد الجهاد في مصر والعالم تنساب في رشاقة لغوية وشرعية تمس القلوب والعقول، يشعر قارئها أنها سهلة كأن الذي كتبها ليس بعالم قرأ مئات الكتب واشتبك مع عشرات منها، وكتب من قبل أمهات المراجع التي تتناول فقه الجهاد وعدّت مرجعية الجماعات الحركية المعاصرة، ويعرف قيمتها العلماء ويقدرون الجهد المبذول فيها جمعا للأدلة وقدرة على الاستنباط والاستدلال، وهذا هو السهل الممتنع الذي يستسيغه العامة ويقدره العلماء

Ad

شعرت كأني كاتب هذه السطور، فقد كنت أردد معانيها طوال عقدين من الزمن مرا كمر السحاب، وأنا أجتهد ضمن ثلة ممن لفتوا الانتباه مبكرا لضرورة اعتماد استراتيجية جديدة تتواءم مع طبيعة المرحلة، وصنع مناخ يسمح بتداول الفكرة والصدع بالدعوة وتوافر الأمن للخائفين في الطرقات والشوارع، اقرأ نصائح الدكتور سيد إمام الشريف في الحلقة التي نطالعها اليوم بشأن ضرورة العلم وتعلم الدين، وهما ما استفتح به نصائحه لأتباع الجماعات الإسلامية وعموم المسلمين، فأذكر ما كنا نقوله لإخواننا منذ سنوات بعيدة وقراءتنا لأسباب العنف والقتال الذي نشأ في كثير منه نتيجة الجهل وعدم العلم، وقتها تحسس بعض إخواننا وعورة الكلمة وشدة الاصطلاح، رغم بساطته ومشروعيته، فقد كنا كأجيال فقدت المرجعية والإشراف من المؤسسة الدينية الرسمية أو من سواها من العلماء نشمر عن سواعدنا لنعلِّم أنفسنا بأنفسنا حتى كنا شيوخ أنفسنا، ومن ثم كنا نضع النتيجة مسبقا ونبحث لها عن دليل!

لذلك كان منطقيا أن يتبع نصيحته بالعلم والتعلم بالعمل بما تلقفه طالب العلم من المعرفة (وما تعلمته من دينك اعمل بما تستطيعه منه) وهي نصيحة مرتبطة بمصادرها الشرعية الأصيلة، فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأون العشر آيات من القرآن ويحفظونها ويتعلمون أحكامها وفقهها ويعملون بما تعلموه منها، قبل أن ينتقلوا إلى غيرها من الآيات، وهذا الذي حولهم من أعراب أجلاف إلى علماء وسادة ملكوا الدنيا شرقا وغربا، والاستطاعة شرط أصيل من شروط العمل بالتكليف (أدوا منه ما استطعتم)، والحركة الإسلامية المعاصرة مطالبة باستحضار دروس التاريخ وعبره والتعلم من أخطاء التجارب السابقة لمواصلة الطريق نحو أسلمة المجتمعات وتدريب الناس على التمسك بأخلاق الإسلام وآدابه وتقاليده، وعموم الأفراد مطالبون بضرورة الإلمام بالحد اللازم من الأحكام الشرعية للنأي عن الطرق المتعرجة التي نهى النبي، صلى الله عليه وسلم، عن سلوكها نحن كأمة مطالبون بتطبيق الإسلام في بيوتنا وعلى ذوينا وذريتنا أولا ورحم الله الذي قال قديما (أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم).

ولقد عنى صاحب الوثيقة بأمر له جذر في أوساط الجماعات الإسلامية يتعلق ويتمثل في قضية السمع والطاعة وهي هنا لا تتعلق فقط بعموم الأفراد الذين يفهمون هذا المبدأ على غير مقاصده وتوسعت فيه فصائل انتسبت للحركة الجهادية على غير الغاية التي توخاها الشارع الحكيم، ولكنها تتعلق أيضا بالدعاة والزعماء والأمراء الذين لا يؤدون دورهم في توعية المأمومين والأنصار والمستمعين وترشيد حماستهم، فما بال دعاة يلهبون عواطف مريديهم ويملأون قلوبهم المخلصة وعقولهم المتعطشة بالحماسة من دون ضوابط تقيدها، مثلما أشار صاحبنا أن الحكم الشرعي لا يترتب على السبب وحده وإنما يلزم معه توافر الشرط وانتفاء المانع. وأذكر أنني قلت للمحقق في قضية الجهاد -وكان المستشار هشام سرايا- لا تحاسبني وحدي وإنما حاسب أيضا الدعاة الذين دفعوني الى فهم آيات الردة على غير مقتضاها. لقد كنا نقول لأحبائنا في الحركة الإسلامية من منطلق علاقة الإخوة التي تظللنا لابد من البحث عن منطلقات لنهضتنا غير الصراخ، وأذكر أنني لم أبد تفاؤلا يذكر بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن وقلت بعد عام وعامين وثلاث من ذكراها إننا لا نسمع إلا صراخا عبر مواقع الانترنت يلعن الأميركان وحلفاءهم ونحن نلعن مثلهم كل أعداء الأمة غير أن الصراخ وحده واللعن لن يضعنا على جادة الطريق ولن يصنع منا أمة قادرة ناهضة، حتى جاء صاحب الوثيقة ليحمل على زعماء الميكروفونات وأبطال الانترنت، هي قضية الاهتمام بالشكل من دون المضمون حتى تحولت أكثر الأمور إلى الاهتمام بالشعارات وتوظيفها لمصلحة فصيل من دون غيره من فصائل الحركة الإسلامية، لا شك أن الشكل جزء من صميم الشخصية المسلمة، في حين تواترت حوله النصوص، لكن ذلك أيضا جزء من منهج أخلاقي متكامل يتحول الشكل فيه إلى إعلان لخصوصية الشخصية المسلمة ومضمونها، فإذا انسلخ أحدهم عن الآخر أصبح مسخا لا يحمل في ذاته أسباب التفوق والنهوض وفقد احترام الآخرين له. لقد عُني صاحبنا بما أشار إليه معلم البشرية الهدى محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وقد لفت صاحب الوثيقة إلى كلفة الذنوب والمعاصي على الأمة المسلمة، وقد روي عن الفاروق عمر رضي الله عنه وهو ينصح جيشه قبيل معركة من المعارك «إياكم والذنوب والمعاصي، فإنكم إن استويتم مع عدوكم في الذنوب والمعاصي تفوق عليكم في العدة والعتاد والعدد».