Ad

إن الجدل القانوني الأميركي الحالي ليس بعيداً عن الورطة التي وقع بها الجيش الأميركي في العراق، تلك التي تحتاج إلى حلول ومعالجات سريعة لضمان انسحاب سريع وإلاّ فإن المأزق سيزداد عمقاً والكارثة الإنسانية تشتد اتساعاً لاسيما بعد أن سقطت المسوّغات القانونية الواحدة بعد الأخرى!!

في مطلع العام 2009 سينتهي التفويض الذي منحه الكونغرس الأميركي تحت عنوان «التفويض بموجب القرار المشترك» للرئيس جورج دبليو بوش بشن الحرب على العراق، حيث استند قرار التفويض الذي صدر في شهر أكتوبر عام 2002، أي بعد عام ونيّف على أحداث 11 سبتمبر الإرهابية الإجرامية، على شرطين أساسيين: الأول هو تخويل الرئيس اتخاذ الإجراءات العسكرية اللازمة للدفاع عن أمن الولايات المتحدة الأميركية ضد «الخطر» المستمر الذي يمثله العراق.

ولعل هذا الخطر سواءً كان «واقعياً» أو مفترضاً، فقد زال بزوال نظام الرئيس صدام حسين، وعليه فلم يعد ثمة معنى للحديث عن خطر وشيك أو محتمل ليتم شن حرب «استباقية» وقائية عليه، بعد أن تغيّرت الحال، فالأمن الوطني الأميركي في مأمن وأصبح العراق «حليفاً» لواشنطن بعد أن كان «عدواً» لها.

أما الشرط الثاني الذي يخوّل الرئيس بمتابعة تنفيذ التفويض، فهو يستند إلى قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة في العراق التي صدرت بعد غزو القوات العراقية للكويت في 2 أغسطس 1990 لاسيما قرارات الحصار الدولي والعقوبات التي استمرت مفروضة على العراق 13 عاماً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو الأمر الذي يمنح واشنطن حسب القانون الأميركي «حق» قيادة القوات الدولية المتعددة الجنسيات المرابطة في العراق منذ احتلاله.

ومثلما أثارت هذه المسألة إشكالات فقهية وقانونية، سياسية وفكرية فيما يتعلق بتطبيق القرارات الدولية، الأمر الذي لم يعد قائماً أو له مبررات، فإن إعلان الرئيس بوش انتهاء العمليات الحربية في الأول من مايو 2003 وصدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483 في 22 من الشهر نفسه، ليعلن شرعنة الاحتلال، وبالتالي افتراض إخضاع الإقليم المحتل لقواعد القانون الدولي الإنساني لاسيما اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، طرح طائفة جديدة من الإشكالات القانونية والسياسية وأثار حزمة جديدة من الجدل المشروع حول أبعاد هذه الحرب و«شرعية» استمرارها من وجهة النظر الأميركية.

ومن المتوقع أن ينتهي مفعول قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1546 الصادر في 8 يونيو 2004 والذي جرى تمديده عدة مرات من جانب الحكومات العراقية المتعاقبة منذ الاحتلال، أما القرار 1770 الصادر في 10 أغسطس 2007 فقد دعا إلى توسيع دور الأمم المتحدة، وبالتالي ستصبح «شرعية» وجود القوات الأميركية، ناهيكم عن استمرار عملياتها العسكرية موضع جدل قانوني أميركي، ما لم تتخذ الخطوات اللازمة، لتفادي ذلك لاسيما السعي إلى إقناع الرأي العام الأميركي الشديد السخط على الإدارة الأميركية بعد اكتشافه خدعة الحرب وعدم وجود أسلحة دمار شامل لدى العراق، ناهيكم عن عدم وجود علاقة بين العراق وتنظيم القاعدة الإرهابي، فضلاً عن الخسائر البشرية والمادية التي بدأت توخز الضمير الإنساني!!

وفي حين أعلنت واشنطن عزمها على عدم السعي للحصول على قرار بديل للقرار 1546، ورغبتها في التوصل إلى اتفاقية ثنائية مع الحكومة العراقية، لتتجاوز الحصول على تفويض دولي جديد أو تفويض جديد من الكونغرس، فالمعاهدة المقترحة رغم أن بغداد الرسمية إلى جانبها، فإنها لن تستطيع سد الثغرة القانونية القائمة، والسبب أن الإدارة الأميركية لا تعتزم تقديمها إلى الكونغرس، بهدف الحصول على موافقته الصريحة حسبما ينص الدستور الأميركي، الذي يعطي الكونغرس حق «إعلان الحرب» فإنه لا يجوز أن يتجاهل الرئيس الشروط المفروضة عليه بموجب قرار التفويض الصادر عن الكونغرس عام 2002.

لا بدّ هنا إذن من الرجوع إلى الكونغرس ثانية للحصول على تفويض جديد منه، إذ لا يحق للرئيس استبدال التخويل بالتكليف العسكري ومواصلته، بالموافقة من الحكومة العراقية على عقد معاهدة تحالف أو صداقة حتى إن منحت واشنطن امتيازات سياسية وعسكرية واقتصادية.

ربما لم يدرك الكثير من السياسيين لاسيما المنخرطين بالعمل اليومي المسلكي والروتيني أهمية هذه النقطة القانونية الجوهرية عند الحديث عن انتهاء مفعول قرارات مجلس الأمن حسب الفصل السابع، الخاصة بالعقوبات والانتقال إلى معاهدة جديدة مع العراق، وإن كان بعضهم يدرك ذلك لكنه يتغاضى عنه إما لمنافع خاصة أو لعدم القدرة على المواجهة، إلآّ أن المسألة رغم بساطتها أو شكلانيتها الظاهرية فهي مسألة مركبة ومعقدة، وإن كان بعضهم يستخف بها ويرى أن القانون الأميركي مثل غيره من القضايا، يمكن تسخيره لما تريده الإدارة والاحتكارات النفطية والمجمّع العسكري الصناعي، لاسيما بعد حزمة الزيف والأكاذيب التي رافقت غزو العراق، لكن الديموقراطية الأميركية والشفافية ودور الرأي العام لا يمكن تجاوزها بهذه السهولة، رغم محاولات توظيفها لمصالح خاصة أنانية.

إن جدلاً واسعاً وسجالاً ساخناً، لاسيما بين المرشحين للرئاسة وخططهم بشأن العراق أخذ طريقه إلى الواجهة، فالمرشحون يتحدثون أحياناً عن عامين من الاحتلال أو حتى 100 عام من الوجود العسكري الأميركي في العراق، إلاّ أن الحديث عن «شرعية» هذا الوجود أميركياً ولا نعني به قانونيا دولياً أو إنسانياً أو عراقياً، لم يبحثه سوى قلة قليلة حتى الآن!!

وقد زعم منسق الإدارة الأميركية للشؤون العراقية ديفيد ساترفيلد أن تفويض عام 2002 يعطي الحق للإدارة في مواصلة استخدام القوة العسكرية ضد تنظيم «القاعدة» في العراق، لكن تنظيم «القاعدة» لم يكن موجوداً في العراق قبل احتلاله، ناهيكم عن أن تخويل الكونغرس تضمن استخدام القوة دفاعاً عن أمن الولايات المتحدة ضد الخطر العراقي المزعوم، وليس ضد تنظيم «القاعدة»، الأمر الذي يشير إلى عمق المأزق القانوني الذي يواجه الإدارة الأميركية.

ويذهب بعضهم إلى اعتبار أن تخويل الحرب على الإرهاب الذي أُعطي للإدارة الأميركية يوفر دعماً قانونيا كافياً لمواصلة الحرب، لاسيما بعد صدور قرارات مجلس الأمن الدولي: القرار رقم 1368 في 12 سبتمبر والقرار رقم 1373 في 28 سبتمبر، ومن ثم القرار رقم 1390 في 16 يناير 2002، بيْدَ أن هذا الأمر مجرد تأويل، إذ بموجبه كان بإمكان الرئيس بوش غزو العراق حتى من دون قرار من الكونغرس، إذا كان ثمة حجج قانونية ومبررات تأويلية وقرارات دولية للعقوبات، رغم أن القرار 1441 الصادر في العام 2002 لم يفوّض الولايات المتحدة ودول «التحالف» شن الحرب على العراق.

أما بعضهم الآخر فيفسّر تمويل الكونغرس لاستمرار الحرب ويعتبره موافقة على استخدام القوة العسكرية، وبعد كل ذلك فإذا كان الأمر صحيحاً، فبالإمكان شن الرئيس الحرب، ومن ثم الطلب من الكونغرس تمويلها، أي وضع المسألة بالمقلوب.

إن الجدل القانوني الأميركي الحالي ليس بعيداً عن الورطة التي وقع بها الجيش الأميركي في العراق، تلك التي تحتاج إلى حلول ومعالجات سريعة لضمان انسحاب سريع وإلاّ فإن المأزق سيزداد عمقاً والكارثة الإنسانية تشتد اتساعاً لاسيما بعد أن سقطت المسوّغات القانونية الواحدة بعد الأخرى!!

* باحث ومفكر عراقي