Ad

إن ما نقترحه في هذه العجالة هو أن الشعب الفلسطيني يستطيع أن يحقق نتائج نضالية أفضل بكثير، إذا لو ركز نضاله على دفع عملية تكوين الأمة وبناء الدولة، ونعتقد أن هذا الإنجاز يفتح إمكانات لا حصر لها لتعديل موازين القوى وبناء موازين وتجارب وعلاقات مختلفة تماماً مع العدو الإسرائيلي.

حتى الآن لم يتمكن الفلسطينيون من وضع استراتيجية لنضالهم تتفق مع ظروفهم النوعية الخاصة، ورأيي أن النضال العسكري يجب ألا يكون الخيار الاستراتيجي للشعب الفلسطيني في المستقبل المنظور، وكان لهذا النضال قيمة كبيرة في التاريخ الوطني الفلسطيني، ولكن من الصعب للغاية اعتباره الاستراتيجية الناجعة للتحرير.

ما أعتقده وأدافع عنه هنا هو أن استراتيجية بديلة تقوم على التحرير المؤسساتي والاجتماعي أكثر قدرة على تمكين الشعب الفلسطيني من النصر في أمد زمني معقول وبتكلفة نضالية مقبولة مقارنة بالنضال العسكري.

إشكالية المقاربات

تشكّل التراجيديا الفلسطينية حالة خاصة بسبب أنه يصعب أن نقربها من أي نماذج معروفة للتحرير، فهي حالة تحرر وطني، ولكنها تختلف في مناح أساسية للغاية عن النماذج المعروفة للتحرر الوطني، فهي تواجه استعماراً استيطانياً وإحلالياً مستوعباً في إيديولوجيا عنصرية، ويختلف ذلك مع الأغلبية الساحقة من حالات النضال الوطني التي تمثلت في النضال ضد قوات أو جيوش احتلال صغيرة العدد، وإن كانت بالطبع حسنة التسليح ومقتدرة فنياً.

ومن المتفق عليه أن نموذج جنوب أفريقيا هو أقرب الحالات إلى الواقع الفلسطيني، وتقوم المشابهة هنا على المواجهة مع استعمار استيطاني وإحلالي يرتبط مع النظام الرأسمالي العالمي بروابط عضوية عميقة ومتنوعة بين الاقتصادي والعسكري والسياسي، ولاشك أن الطابع العسكري للنظام الاستيطاني واهتمامه بالتفوق الكاسح للبيئة المحيطة ملمح مشترك بين العنصريين البيض والصهاينة.

ولكن المشابهة تكاد تتوقف عند هذا الحد، وتمتد الاختلافات إلى دوائر وخصائص كثيرة، فالمجتمع العنصري الأبيض في جنوب أفريقيا عاش في هذه الأرض لنحو خمسة قرون، وهو ما دفعه إلى تطوير نوع ما من الروابط «الوطنية» وهوية متميزة عن تلك التي تحدّر منها قبل خمسة قرون، ويختلف ذلك عن حالة المشروع الصهيوني في فلسطين، والذي بدأ عملياً بعد الحرب العالمية الأولى، ولم تعش الأغلبية العظمى من اليهود في أرض فلسطين سوى لعقود قليلة، ومن ناحية أخرى فإن المجتمع العنصري الأبيض في جنوب أفريقيا يعد بالملايين، ولكنه لايزال يشكّل أقلية صغيرة في محيط سكاني هادر يتشكل من السكان الأصليين، أما في الحالة الفلسطينية فإن ثمة تقارباً شديداً في أعداد السكان بين المستوطنين اليهود والشعب الفلسطيني بمن فيهم اللاجئون في البلاد العربية القريبة. وفي الحالة المحددة للأرض المحتلة بعد الخامس من يونيو عام 1967 فإن الفلسطينيين يشكلون أقلية، وهي أقلية منفصلة إلى حد بعيد عن «الأغلبية السكانية» من المستوطنين اليهود في إسرائيل، أما إذا أخذنا بمجموع مظاهر الوضع الفلسطيني فربما يكون بوسعنا أن نختبر مقاربة أخرى تماماً لم تبحث قط في العقل العربي وهي حالة الشعوب الأصلية التي تبحث عن تحرّرها الاجتماعي وحقوق المساواة في مواجهة النظم الاستيطانية في عدد من بلاد أميركا الوسطى والجنوبية، بل إننا يمكن بمعنى معين أن نجد مشابهة ولو نسبية للغاية بين حالة النضال الفلسطيني وحالة نضال الأفارقة الأميركيين من أجل المساواة طوال القرن العشرين، وهو النضال الذي حصل على توفيق كبير خلال العقود الأربعة الماضية.

هل يمكن أن نجمع بين عدد من هذه المقاربات؟ المقاربة الأعمق تقوم على أن النضال الفلسطيني هو تحرر وطني في مواجهة الاستعمار، ولكننا أشرنا إلى الاختلافات البنيوية في تجربة النضال الوطني الفلسطيني، ومن ناحية ثانية فإننا نستطيع أيضا أن نفكر في الحالة الفلسطينية انطلاقاً من مقاربة تاريخية مع النضال من أجل المساواة والتحرر الاجتماعي في مواجهة نظم عنصرية، ولكننا يجب أن نعي الاختلافات العميقة بين الحالة الفلسطينية وهذه الحالات التي استهدف فيها النضال مجرد المساواة والتحرر الاجتماعي والثقافي.

فالقضية الفلسطينية كما نسميها هي مجموع معقد ومتداخل بين قضية لاجئين محرومين من كل الحقوق المعروفة للبشر وقضية شعب الضفة والقطاع الذي يعاني نظاماً استعمارياً له امتدادات استيطانية ويتسم بعنف بالغ، وهناك أيضاً قضية مساواة وإشكالية اندماج بين الأقلية العربية والأغلبية اليهودية في إسرائيل 1948، ولا يمكن أن نعالج ما نسميه بالقضية الفلسطينية بالتركيز على جانب واحد بل يجب أن نأخذها جميعاً في الاعتبار مهما كان مستوى التعقيد الحاصل.

إن أخذ جميع جوانب القضية في الاعتبار يمكننا أيضاً من إجراء مقارنات أو مقاربات مفيدة للغاية، بل يمكننا أيضاً من الوصول إلى استنتاجات لم ينفتح عليها الفكر العربي أبداً، وعلى سبيل المثال –بل ربما تكون هذه هي الفكرة المركزية التي نقترحها هنا لبحث مستفيض- فإن الشعب الفلسطيني حقق أفضل نتائج عندما أقام ممارساته النضالية على نموذج المساواة والتقدم الاجتماعي على الأقل بالمقارنة مع المقاربة القائمة على نموذج التحرّر الوطني التقليدي.

ونلاحظ هنا أن القسم الأكثر نجاحاً والأقل تضرراً من الشعب الفلسطيني هم «عرب اسرائيل»، وقد عاش هؤلاء معاناة كبيرة جدا ولكن هذه المعاناة خفت كثيراً مع الوقت وبعد إلغاء نظام الحكم العسكري، لم تحل المواطنة الشكلية الإشكالات الهائلة التي يواجهها عرب 1948 أو «عرب إسرائيل» كما يطلق عليهم، ولكن المؤكد أنها مكنتهم من الحصول على وضع متميز للغاية مقارنة بسكان الضفة والقطاع، وقطعاً مقارنة مع اللاجئين. إننا لا نصطنع هنا استنتاجاً أحادياً يقول إن الحل هو في اختزال النضال الفلسطيني في المقاربة الاجتماعية أو في قضية المساواة وحدها، فالأوضاع الفلسطينية أكثر تعقيداً بما لا يقاس.

وبينما لا يجوز حصر القضية الفلسطينية في مقاربة وحيدة فإن المقارنة تتيح مضاربات ذهنية ومقتربات عملية مثيرة للغاية، وما يهمنا هنا هو التأكيد على ما يلي: أن تنوع جوانب ومقاربات القضية الفلسطينية يسمح لنا بوضع تصورات استراتيجية متنوعة تتحرك من أولوية جانب معين أو مقاربة معينة إلى أولوية أو مقاربة أخرى تبعا للظروف.

وبصورة أكثر تحديداً فإن ما نقترحه في هذه العجالة هو أن الشعب الفلسطيني يستطيع أن يحقق نتائج نضالية أفضل بكثير، إذا لو ركز نضاله على دفع عملية تكوين الأمة وبناء الدولة، ونعتقد أن هذا الإنجاز يفتح إمكانات لا حصر لها لتعديل موازين القوى وبناء موازين وتجارب وعلاقات مختلفة تماماً مع العدو الإسرائيلي.

وربما نستطيع تقريب المعنى والصورة إلى حد بعيد بمجرد استيعاب ما أحدثه بناء سلطة وطنية فلسطينية في الأرض المحتلة بعد اتفاق أوسلو من تطور ملموس وإن ناقص بالطبع لأسباب مفهومة تماماً في مجمل نوعية الحياة الفلسطينية.

فرغم أن السلطة الوطنية لم تكن من حيث البنية وفلسفة وأساليب العمل والمستوى المهني متميزة بأي شكل، فهي أحدثت تطوراً هائلا في حياة الفلسطينيين في الضفة بالذات.

صارت هناك لأول مرّة خدمات حضرية وعملية «تنمية» وحالة عامة من النهوض الوطني في أداء مؤسسات الصحة والتعليم والخدمات الأساسية الأخرى، ولو أن هذه العملية استمرت لشكلت شرطاً عضوياً وموضوعياً جديداً تماماً في التاريخ الفلسطيني وفي موازين القوى أيضا.

وبالنسبة لنا تمثل هذه النقطة حجر الزاوية لاستراتيجية بديلة للنصر.

* كاتب مصري