التمييز الصارم بين مفهومي الأيديولوجيا واليوتوبيا الذي يقطع أي صلة بينهما أو يضعهما في خطين متوازيين لا يلتقيان يبدو أمراً غير صائب، خلال تمحيص جدل المفهومين مع الواقع عبر التاريخ. ولذا فمن الممكن أن تكون يوتوبيا اليوم أيديولوجية الغد.«متى يأتي الإنسان الإنسان؟»... هكذا وجه صلاح عبدالصبور السؤال في قصيدة خالدة له، وجاءت الإجابة على مرحلتين، منحتنا بعض الأمل في الأولى حين قال: «اصبر سيجيء ... سيطل على الدنيا يوماً ركْبُه»، وسلبته الثانية منا حين قال: «الإنسان الإنسان عبر ... لم يدركه بشر ... حفر الحصباء ونام ... وتدثر بالآلام».
وهذه الأشعار القصيرة تلخّص رحلة البشر في البحث عن عالم أفضل، وجده البعض في تطبيق مبادئ الأديان، لكن الناس دوماً تنسى تعاليم السماء، وتحولها إلى أيديولوجيات جوفاء وعقيمة. وألفاه آخرون في تخيل المدن الفاضلة، التي لم ولن تحل على الأرض أبداً. ولهذا دار على الدوام جدل عارم حول علاقة الأيديولوجيا باليوتوبيا.
واليوتوبيا صيغة تطلق على جميع الأفكار والأوضاع والملابسات التي لا يمكن تطبيقها في الواقع المعاش، نظراً لبعدها عنه، ولذا تبقى نوعاً من المسرحية السياسية والاجتماعية الخلّاقة التي تطرح في إطار خيالي، وهي تختار منذ اللحظة الأولى الذي نحتها فيها توماس مور طريق الغموض والخيال، فتصبح اليوتوبيا Utopia بمعنى المكان غير الموجود في أي جهة، أو الأيديوتوبيا Udetopia، أي المكان غير الموجود في أي زمن، أو الأوتوبيا Eutopia، بمعنى مكان السعادة، حيث كل جديد، وهي في كل الأحوال «مجتمع مثالي» نسجه مور في شكل روائي جيد عبر رحلة خيالية.
وبذلك «اكتسبت كلمة «يوتوبيا» منذ الأصل معنى المستحيل إنجازه، سواء لدى العامة في استخدامهم اليومي لها كمصطلح، أو لدى الكثير من المفكرين الاجتماعيين، حين أرادوا أن يصفوا تلك المشروعية المجتمعية التي نراها مستحيلة التنفيذ أصلاً. إنها تعني هنا اللااتصال بالواقع أو نوعاً من الخيال الجامح، ولذا أصبح ينظر إلى الشخص الذي يؤمن بها، على نطاق واسع، بأنه مختل عقلياً.
من هنا نجد أن مقابلة الأيديولوجيا اصطلاحاً وواقعاً باليوتوبيا تشي باتساع الشقة بينهما، وهو ما لمسه كارل مانهايم في تمييزه بين الاثنين، فلديه تعني الأولى منظومة من الأفكار والقيم والمعتقدات التي تسعى إلى الحفاظ على الوضع القائم، أما الثانية فتعني الأحلام التي تلهم العمل الجمعي لفئات تعارض رغبة في تغيير المجتمع جذرياً. والأولى، وعلى الرغم من أنها تستطيع ممارسة دور فعال في تحفيز الإنسان على العمل، فوظيفتها الأساسية تبرير أنظمة النظام الاجتماعي والسياسي، بينما الثانية فتمتلك قوة التغيير، نظراً لأن الأيديولوجيا تعبر عن ذهنية الطبقات حال اندحارها، أما اليوتوبيا فترتبط بحضور الطبقات، وتقوم بدور ثوري يقلب النظام الاجتماعي.
لكن التمييز الصارم بين مفهومي الأيديولوجيا واليوتوبيا الذي يقطع أي صلة بينهما أو يضعهما في خطين متوازيين لا يلتقيان أو يقابل أحدهما بالآخر، يبدو أمراً غير صائب، حال تمحيص جدل المفهومين مع الواقع عبر التاريخ. فالرموز، في نظر أبراهام كابلان وهارولد لازويل، تعمل في بعض الأوقات مثل اليوتوبيا، وربما في وقت آخر تعمل كأيديولوجيا، ولذا فمن الممكن أن تكون يوتوبيا اليوم أيديولوجية الغد.
وقد حدا ذلك بعالم الاقتصاد العربي الكبير الدكتور سمير أمين إلى أن يضع مفهوم اليوتوبيا في صيرورة دائمة، حين تحدّث عن عدم ثبات القواعد التي تحكم المجتمع، فما كان يبدو «طوباوياً» في عصر ما ومتناقضاً تماماً مع قواعد سير المجتمع بما يجعل من المستحيل تحققه، يصبح ممكناً في عصر لاحق. وبعد أن كان اعتناق اليوتوبيات نوعاً من الخلل العقلي أخذ كثيرون ينظرون إلى المفهوم بمعنى أكثر رحابة من منطلق الإيمان بأن المستقبل يمكن أن يتجاوز الحاضر بصورة أساسية، وأن نسيج الحياة والعمل وحتى الحب في المستقبل لا يحمل سوى تشابه ضئيل بما هو مألوف لدينا اليوم. كما أنه لا يوجد مجتمع بشري من دون رؤية أو مشروع خاص به، الأمر الذي يجعل البشر في حاجة دائمة إلى التصورات «الطوباوية» التي تمثل المحرك الضروري للعمل، الذي يؤدي إلى إحراز تقدم في الحياة.
وهذا التقريب بين اليوتوبيا والواقع زاد من مساحة تماسها مع الأيديولوجيا، خصوصاً بعد أن تعامل كثيرون مع «اليوتوبيا» على أنها «برنامج سياسي» و«نموذج اجتماعي». فعلى سبيل المثال، لا الحصر، حجز السوفييت مكاناً لتوماس مور في مدفن عظماء الثورة البلشفية، وتم تسجيل اسمه على نصب تذكاري في الساحة الحمراء بموسكو، في حين قام الكاثوليك بتطويب مور عام 1886، ونصبوه قديساً عام 1935، ليفتح الطرفان الباب واسعاً أمام تصور إمكان تحقق لليوتوبيا، أو بعض جوانبها، في الواقع المعاش على الأرض، بدلاً من أن تظل أملاً يحلق بعيداً خارج نطاق ما يمكن أن يراه البشر أو يلمسونه.
* كاتب وباحث مصري