خد وخل: أبو النجوم سفيراً للفقراء

نشر في 16-09-2007
آخر تحديث 16-09-2007 | 00:00
 سليمان الفهد

وجدتني أيمم صوب دار «ميريت»، المكان الذي يحلو «لبو النجوم» الاختلاف إليه كل عصرية، والجلوس فيه ساعات عدة يقوم بدور الحاكي المصري بوصفه أحد أباطرة الحكي والكلام في بر مصر!

«يعد الفقر من أهم وأخطر المشكلات التي واجهت البشرية في مسارها التاريخي الطويل، ومازالت تواجهها في وقتنا الحاضر على امتداد الكرة الأرضية، إنه الكابوس الذي يؤرق البشرية، ويقض مضجعها، والخرق الذي يتسع لما يزيد على ألف وثلاثمئة (1300) مليون من البشر على الأقل، يعيشون تحت ما يسمى بخط الفقر! والذي حاول الراتقون - هنا وهناك - أن يلملموا أطرافه». (من مقدمة كتاب: تجربة بنك الفقراء- الطبعة العربية).

وها هو الشاعر الفَّذ «أحمد فؤاد نجم» ينضم إلى زمرة «الراتقين» وسط فرحة عارمة عمت مصر المحروسة لاختيار الشاعر نجم سفيراً للفقراء، احتشدت دار «ميريت» للنشر بوسط البلد بالمهنئين الذين يمثلون أولاد البلد والناس العاديين، فضلا عن أصدقاء الشاعر ومريديه من الأدباء والمثقفين على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم.

ووجدتني أيمم صوب دار «ميريت»، المكان الذي يحلو «لبو النجوم» الاختلاف إليه كل عصرية، والجلوس فيه ساعات عدة يقوم بدور الحاكي المصري بوصفه أحد أباطرة الحكي والكلام في بر مصر!

حين احتوتني دار «ميريت» كان السفير، كما أخبره من أربعين سنة، يرتدي الجلابية البلدي البيضاء من غير سوء، وينتعل مركوباً صيفياً انتهى عمره الافتراضي منذ أيام المماليك! فضلاً عن أنه لا يجد غضاضة في انتعال «زنوبة» من دون أن يرف له جفن السفارة بأي غضاضة.

فالسفارة في عرف «نجم» تكليف يحمله على كاهله بجدية واحتشاد كاملين. لذا لن تغير في زيه وطبعه وهويته وشخصيته التي يخبرها الناس.

كان يوم إعلان اختياره سفيراً للفقراء بمنزلة مولد وعيد بهيج لظن مريديه أنه السفير المناسب لفقراء العرب ومعوزيهم. ذلك أن شِعره يجسد «أوراق اعتماده» ويدلل عليه: سفيراً اختار الانحياز إلى الفقراء والمظلومين والمقهورين، وتبنى همومهم وقضاياهم، لانه منهم: يسكنونه: شعراً ونثراً وموقفاً ثابتاً لا يلين!

من هنا يمكن القول إن سفير الفقراء بات يجسد حالة ثقافية اجتماعية تتسامق لتصل إلى حد الرمز الوطني الرافض للقبح والفساد في شتى مناحي الحياة.

● ومن هنا أيضا: لا عجب ان يحفظ شباب اليوم (من الجنسين) أشعاره ويهتفون بها في المظاهرات، ويلعلعون بها في المناسبات والتجمعات، ويحفظونها عن ظهر قلب رغم أنهم لم يعاصروها حين أبدعها الشاعر في النصف الثاني من القرن العشرين. ولا عجب في ذلك فقد كانت هموم شباب الستينيات والسبعينيات حاضرة في أغانيه وأشعاره بشدة، لاتكاد تغادر فعلا جماهيرياً شبابياً إلا وثَّقته وثَّمنته وزَهت به بفخر وإعجاب واضحين.

● حين احتضنته مهنئاً الفقراء بسفيرهم وشددت على يده متمنياً له النجاح في مهمته الإنسانية الصعبة مازحني قائلاً: شد حيلك معايا «يابو نواف» لاسيما وأني عينتك «القنصل»! وضحك الجميع للدعابة على الرغم من أن العبدلله يعد نفسه «قنصلاً» بالاختيار توسلاً لمساعدته في إنجاح مهمته. وأحسب أن هذا الموقف هو ما يشعر به، خاصةُ مريديه وعامتُهم على حد سواء.

● وما دمنا في سياق الدعابات التي فجرها اصدقاء الشاعر يوم «مولد السفير الفاجومي»، ارتأى صديقه الفنان «سعيد عبيد» أن يداعب «حرم سعادة السفير» الست «أم زينب»، فاتصل بها في المنزل... ولمّا ردت فاجأها سائلاً أهذا منزل سعادة السفير... وحضرتك حرمه؟ (ردت بعفوية بنت البلد- ابن السفيه!) أنا أم زينب. النمرة غلط، قال سفيه قال!

والطريف ان العبدلله حاول محاورة «ابو النجوم» مثل أي صحفي معتبر! ولكن الذي حدث هو أن صاحبنا تحول إلى مستمع (وهي حالة نادرة جداً له) بينما رحت أنا أطرح السؤال وأجيب عنه، واكتفى صاحبنا بأن يتفق معي فيما ذهبت إليه، ربما سعيا إلى إسكاتي، ومن ثم مباشرة حديث المصطبة الذي لا يكف عنه حالما يتربع في مكانه بدار «ميريت» للنشر!

ووجدتني احدثه عن تجربة «لجنة مسلمي أفريقيا» الرائدة في مكافحة الجوع والعطش والمرض والفقر والأمراض والعلل كافة التي تكابدها القارة الأفريقية الموعودة بالمآسي والمحن. وطفقت أكلمه عن شخصية ذلك الشاب التقي النقي الذي تخرج من كلية الطب وكرس جهده وماله وكله لمساعدة فقراء أهل أفريقيا على مجابهة التحديات المعاشية التي تجابههم في كل مكان وحين.

وكان «ابو النجوم» مسروراً بتجربة الشيخ الدكتور عبدالرحمن السميط مبهوراً بها، وقال في هذا السياق إن تجربة الرجل في فعل الخير، تضاهي معنى القول المأثور الصيني (بدلا من أن تمنحه سمكة، علمه الصيد).

والمعنى: بالغ الحكمة يستأهل أن يكون نبراسا يضيء طرق الخير المفضية إلى القضاء على الفقر، أو التخفيف من غلوائه على أقل تقدير.

ومعروف - بداهة - أنه ليس هناك ثمة خلطة عجيبة، ووصفة ناجحة لعلاج الفقر واجتثاثه من «لغاليغو»، ألم ينسب لسيدنا علي رضي الله عنه مقولة (لو كان الفقر رجلاً لقتلته) أما «ابو النجوم» فيقول في هذا السياق: لو كان رجلاً يوريني وشه لأقتله، بكل تجليات القتل: شنق، ورجم، وكرسي كهربائي، واعدام بواسطة العم «عشماوي» لكن الفقر- لحسن حظه - ليس رجلاً!

 

● لكن صاحبنا الشاعر سفير الفقراء لن يعدم وسيلة عبقرية يقضي بها على الفقر - بقدرة قادر - من حيث لا يحتسب الفقراء أنفسهم. خذ عندك هذا الحل «الثوري» الممنهج الذي يدحرجه الشاعر حلاً جذرياً يقضي على الفقر والفقراء على حد سواء!

يقول «أبو النجوم»:

(حتقولي الفقراء ومشاكلهم

دي مسائل عايزه تفانين!

وأنا رأيي نحلها رباني

ونموت كل الجعانين!)

ومن نافل القول الإشارة إلى أنّ المقطع الشعري المذكور آنفا «تهكمي يسخر من الحلول الخاوية التي تطرحها الحكومات شعارات جوفاء لا تغني ولا تسمن من جوع، ولا تؤدي إلى طائل بل إلى طل! ومن هنا كان تهكم الشاعر الآنف الذكر، ولعل قصيدة «مر الكلام» تجسد فلسفة الشاعر ورؤيته في محتوى الشعر ومعناه وغايته يقول:

(مر الكلام زي الحسام، يقطع مكان ما يمر.

أما المديح... سهل ومريح يخدع صحيح ويغر.

والكلمة دين... من غير إدين بس الوفا ع الحر..)

وفي السياق الذي نحن بصدده، يضيء لنا الشاعر «عيون الكلام» في قصيدة تحمل الاسم نفسه.

عيون الكلام

إذا الشمس غرقت في بحر الغمام،

ومدت على الدنيا موجة ظلام،

ومات البصر... في العيون والبصاير،

وغاب الطريق.. في الخطوط والدواير،

يا ساير.. يا داير.. يا بو المفهومية،

مفيش لك دليل.. غير عيون الكلام)

في مقدمة أعماله الشعرية الكاملة (الطبعة الشرعية الأولى) دار «مبويت» 2005. يقول الشاعر: (آه من الشعر... هذا الكائن الساحر الخلاب: منحة الموهبة الجزيلة وامتحان الحياة الصعب الوعر...!)

ويقول في السياق ذاته: (أول الزمانات قابلته ملكاً متوجاً على عرش من الأنغام السحرية، شايلاها مجموعة من الحناجر الذهبية...

وأيضا قابلته مستخبي في المواويل الحمرا والخضرا اللي قالها الفلاح المصري الفصيح في شكوى الزمان والمكان.

وزي ما يقولوا العشاق: وقعت في شباكه من أول نظرة، ومن يومها وهو مشتحفني ومجرجرني وراه في المحاكم والسجون لحد ما حفيت رجليا وتعبت أحلى تعب، وانا برضى ما شي وراه... بلاد الله خلق الله... مطرح ما ترسي بادق لها، والمخوزق يشتم السلطان، واللي يعرف أبويا يروح يقول له، واللي يجيب له العشا يحوشه! وقدرت اقول كلمتي بالصوت العالي، ورزقي ع اللي رازق الدودة في بطن الحجر.

لأن الشعر رباني وعلمني: لا أبلع لساني، ولا أجز على سناني،

ولا أدهن الكلام ألوان، ولا أقول للقرد: يا قمر الزمان!

وأنا في الأصل عاشق تراب بلدي، ومتمعشق في ناس بلدي

مصر المحروسة، ومتواعد مع الحلم الانساني

هنا على شط بحر البحور وسيد الأنهار

النيل الخالد العظيم،

وباطلب من الله ولا يكثر على الله

انه يمد في عمري كمان فترة

زي رؤساء الجمهورية تبعنا

لحد ما أشوف بعيني مصر الخضرا بتغني للحب،

والزرع والحصاد... والعالم كله بسمع ويقول: كمان ياست كمان.)

 

● وأحسب أن الكلمة السابقة: جامعة مانعة، كما يقول المناطقة، ولعلها خير تعريف بالشاعر حيث يقول نفسه بعظمة لسانة بمناسبة اختياره سفيراً للفقراء في شتى الأقطار العربية، إنها بمنزلة «أوراق اعتماده» سفيراً للفقراء، وحيثيات اختياره دون غيره من الشعراء!

والحق أن «ابو النجوم» ليس سفيراً للفقراء فحسب، بل إنه - فضلا عن ذلك - سفير للمظلومين والمعتقلين لطول لسانهم والمشردين العاطلين... ومن لف لفهم!

واليوم 16 سبتمبر سيجرى احتفال شعبي وطني قومي لتنصيب الشاعر السفير وتكليفه بالمهمة الإنسانية المضنية القادر على أدائها بما يليق بها من احتشاد وجهد وتعب متواصل إلى ما شاء الله!

نعم. إن الشاعر لا ينتمي إلى السفراء ذوي النية الحسنة. ليس لأن نواياه ليست حسنة... لا سمح الله. غاية ما هنالك أن مكافحة الفقر لا يُستجاب لها بالنوايا الحسنة، وأحسبه سيتصدى له مدججاً بعدته وعتاده الإبداعيين، وبلسان الحكماء المترع بالسخرية المرة، المحرضة على اقتلاع الفقر من جذوره! كما هو دأبي في المجابهة والتصدي.

واعتقد جازماً أن صاحبنا لا يعيبه ألا يكون من السفراء ذوي الحسنة، حسبه «حسَنة» كونه سفيراً للفقراءا! وحسبه أن نوايا الفقراء أنفسهم تجاهه حسنة!

 

back to top