تنشر «الجريدة» قريباً مذكرات الدكتور أحمد الخطيب، وهي عبارة عن الجزء الأول من تلك المذكرات، حيث تغطي الفترة بين 1938 و1967، ولن أتحدث عنها وعن تفاصيلها حتى لا نفسد متعة قراءتها على القارئ، لكنه من المهم الحديث عن الدكتور الخطيب كواحد من رموز تلك الحقبة التي بدا أن الكويت تشهد فيها نهوضاً وصعوداً، ورسوخاً.

عكفنا على الاشتغال في هذا المشروع سنوات عدة رغما عن قلة الزاد ووعثاء السفر. وكانت الانقطاعات كثيرة، والاحباطات أكثر حتى ظننا أن تلك المذكرات لن ترى النور إطلاقاً حتى انتهينا منها أخيراً، والحمد لله على كل حال.

Ad

خلال هذه السنوات تسنى لي أن أقترب من الدكتور الخطيب وأعرفه أكثر من مجرد رمز سياسي معارض، فوجدت فيه الإنسان البسيط العفوي الناقد لذاته قبل نقده للآخرين، وهي خصلة ليست سائدة بين البشر كما يبدو.

وفي أثناء رحلة حياته بدءا من الكويت إلى بيروت ثم الكويت مرة أخرى، اتضح لي أن هذه الشخصية الفذة لم تكن وحدها، وكان يصر على أن الكويت هي نتاج نضالات رجال كثر، وأصر على أن يخلّد ذكرى عدد من أولئك الرجال مثل عبدالله الحمد الصقر، ومحمد عبدالعزيز القطامي، ومحمد المنيس، وسليمان العدساني، وصالح عثمان الراشد، وسيد علي سيد سليمان الرفاعي، ومشعان الخضير الخالد، ويوسف المرزوق، وراشد عبدالغفور محمد العبدالغفور، ومحمد البراك، ونصف اليوسف، وخالد العدساني، وعاشور عيسى عاشور، وفهد عطية، وعبدالحميد الصانع، وعبداللطيف ثنيان.

كان يصر اصراراً شديداً على أن الفترة تلك التي شهدت صعوداً إنما كانت بتضافر جهود أولئك الرجال الذين ضحى بعضهم في سبيل ذلك تضحيات جمة، فمنهم من ضحى بحياته، ومنهم من شُرد، ومنهم من سُجن، ومنهم من لوحق برزقه، ولكنهم رغماً عن ذلك ظلوا أوفياء لوطنهم.

وهكذا أصر الدكتور الخطيب في حديثه على أن ينكر ذاته، وكان ذلك أحد أسباب تأخير قبوله للعمل بمشروع المذكرات أساساً. وما لبثت أن وجدت نفسي وأنا أنهي العمل الكتابي أمام حقبة تمثلت في رجل لم يكن الدكتور الخطيب إلا مؤشراً لها. كانت الصعوبة التي واجهتني معه هي محاولة جره إلى الخاص بدلا من العام، وأعترف أنها كانت حرباً شعواء، أحاول إقناعه بأن المذكرات أو الذكريات، لا فرق، هي خليط بين هذا وذاك، وأن القارئ يريد أن يعرف أكثر عن الشخصية العامة، وكنت عندما أنجح يبتسم ابتسامة خفيفة وينفث دخان سيجاره، ثم يقول «يعني انت شايف هالشكل» فيقبل على مضض.

في تصور الدكتور الخطيب، وربما في تصوري أيضاً، أن بإمكاننا أن نطلق على تلك الحقبة «حقبة الزمن الجميل» فقد كانت تلك الحقبة بحق هي حقبة الانتقال من الإمارة إلى الدولة، وهو العنوان الذي جرى الاستقرار عليه كعنوان للمذكرات.

أحزنني ولأسباب معلومة أنه أصبح يشعر بإحباط شديد، وقال لي في لقاءاتنا المتأخرة إنه لم يكن راغباً في خوض انتخابات مجلس الأمة 1992 بعد تحرير الكويت، وأنه شعر بأنها فرضت عليه فرضاً، وعندما فاز في تلك الانتخابات لم يكن ذلك إلا بمنزلة رد اعتبار شعبي له، ولكنه كان يجر رجليه جراً إلى المجلس آنذاك، مستخدماً تعبير «كالطفل الذي يرغمونه على الذهاب إلى المدرسة»، وأن ما حدث في بدايات جلسات المجلس من تحويل للجنة التحقيق في معطيات الغزو إلى لجنة لتقصي الحقائق كان بمنزلة رصاصة الرحمة لجسد الوطن المنهك والمليء بالعلل أصلاً.

حكاية الدكتور الخطيب في هذا الوطن طويلة وشاملة وعميقة بعمق البحر، والغوص فيها كالبحث عن المحار الذي نظفر فيه بقماشة، وربما بِدانة هنا أو هناك.

ويبقى الدكتور أحمد الخطيب سواء اختلفت معه، أو اتفقت، من صنف أولئك الرجال الذين لا تملك إلا أن تحترمهم، فهم رجال من ذلك الزمن الجميل.