هل مات تيار المحافظين الجدد؟

نشر في 03-09-2007 | 00:00
آخر تحديث 03-09-2007 | 00:00
 ستيفن إيريك برونر

كانت استراتيجية تيار المحافظين الجدد، التي تم صقلها منذ عصر ريغان، تتلخص في إعادة رسم الخطوط الفاصلة، ثم (وكما يحدث الآن) رفع شعار «الغرب في خطر»، وهو ما يتطلب تغذية التمييز العاطفي القوي بين «نحن» و«هم». والحقيقة أن الجاذبية الشعبية التي تتمتع بها هذه الاستراتيجية لن تنتهي برحيل إدارة بوش.

لقد عَـمِل تيار المحافظين الجدد كشارة للوحدة بالنسبة لمسؤولي إدارة بوش الذين يؤيدون السياسة الخارجية العدوانية، والإنفاق العسكري الهائل، وازدراء القانون الدولي والمؤسسات الدولية، والهجوم على دولة الرفاهية، والعودة إلى «القيم التقليدية». لذا، فمع اقتراب عصر بوش من نهايته وتدني شعبيته بسرعة بالغة واستقالة عدد من كبار المسؤولين في إدارته، لابد أن نتساءل ما إذا كانت حركة المحافظين الجدد أيضاً قد اقترب أجلها؟

لقد نشأ تيار المحافظين الجدد في ظل مقدمات مختلفة عن الأشكال التقليدية للتيار المحافظ. ولأن الإصلاحات قد تشكل جزءاً من تراثنا، فمن الممكن أن يتكيف المحافظون التقليديون مع التغيير، بل وأن ينسبوا إلى أنفسهم فضل التقريب بين الماضي والمستقبل. أما المحافظون الجدد فهم في المقابل لا يبالون بما أطلق عليه إدموند بروك الصلات التي تربط بين «الموتى، والأحياء، والذين لم يولدوا بعد». فهم على النقيض من ذلك ثوريون، أو بالأحرى «أصحاب ثورة مضادة»، يسعون إلى إعادة صياغة أميركا والعالم.

الحقيقة أننا ما زلنا نستطيع أن نُـعَرِّف إرفينغ كريستول، ونورمان بودوريتز، وغيرهما من المحافظين الجدد الأكبر سناً من رجال الدولة، بالجمود الشيوعي الذي سعوا إلى مقاومته أثناء شبابهم حين كانوا من أتباع تروتسكي. ولا تحتاج فضيلة «حزبهم» أو عشيرتهم إلى تفسيرات أو تبريرات معقدة: فهي ترمز إلى «التقاليد الأميركية»، بينما لا يقدم المنتقدون سوى «أعذار موضوعية لأعداء الحرية».

حتى فترة الستينيات، كان المحافظون الجدد (باعتبار ما سيكون) يشاركون الحزب الديموقراطي معاداته الشديدة للشيوعية، وقبوله لحركة الحقوق المدنية، ودعمه لسياسات الرئيس روزفلت الجديدة الخاصة بدولة الرفاهية الصفقة الجديدة. ولقد عبر عن ذلك على نحو قوي ومؤثر المحافظ الجديد ذو النفوذ ريتشارد بيرل حين قال في عام 2003 إنه ما زال ديموقراطياً مسجلاً، إلا أنه بلا «حنين» إلى هنري «سكوب» جاكسون نائب مجلس الشيوخ القوي السابق والذي جسد هذه الالتزامات.

إلا أن فترة الستينيات بالنسبة للمحافظين الجدد (باعتبار ما سيكون) كانت بمثابة «الصدمة» التي فاقت إذلال خسارة حرب فيتنام والعار الذي لحق بالرئيس ريتشارد نيكسون. فقد تحول ما بدا في فترة الخمسينيات وكأنه ثقافة سائدة من الالتزام إلى ما أطلق عليه بودوريتز «ثقافة معادية». ويبدو أن الحركات الاجتماعية الجديدة التي تسعى إلى تطهير التاريخ من الأساطير، وترفض الابتذال في تبرير السياسات التي تحقق مصالح النخبة، وتطالب بقدر أعظم من المسؤولية المؤسسية، أصبحت تشكل تهديداً عظيماً «للمؤسسة» بكاملها.

فضلاً عن ذلك فإن تأمين الأسس السياسية التي قام عليها انتصار تيار المحافظين الجدد لم يتسنَّ إلا بعد أن قرر رونالد ريغان إقامة تحالف بين الطائفتين المحافظتين المتحاربتين تقليدياً.

في مستهل الأمر كانت إحدى هاتين الطائفتين تشتمل على أهل النخبة من معارضي تدخل الدولة في السوق. ولم يهتم أفراد هذا الطائفة إلا قليلاً بشأن الحقائق المرتبطة «بالمجتمع» أو «القيم الأسرية». وكانت أفضل حججهم الفكرية مستمدة من أفكار ملتون فريدمان، وفردريك فون هايك، وروبرت نوزيك، الذين سعوا إلى تحدي النظريات الجمعية التي تحكم المجتمع بصورة عامة، و«الاشتراكية» بصورة خاصة.

أما الطائفة الأخرى فقد استمدت أصولها الفكرية من شعوبية «الجهل» التي سادت في القرن التاسع عشر، وما صاحبها من الهستيريا القومية، والدفاع عن التحيز التقليدي، وكراهية النخبة من أهل الفكر والاقتصاد. إلا أن أفراد هذه الطائفة لا يعارضون بالضرورة التشريعات الاجتماعية التي تفيد طبقة العمال وخاصة حين يتميز العمال البيض، حتى أن بعضهم ينظر نظرة إيجابية إلى «الصفقة الجديدة» التي ابتدعها رزفلت.

وعلى هذا فإن تيار المحافظين الجديد لا يمكن اختصاره في الدفاع عن نظام السوق الحرة أو شعوبية جناح اليمين، وذلك لأن خواصه الأيديولوجية تقوم على دمج كل وجهات النظر المتناقضة هذه. وكان السؤال يتلخص في كيفية دمج مصالح النخبة في رأسمالية السوق الحرة في الطبيعة البسيطة لجمهور الناخبين المحدود الأفق.

كان أكثر ما لاقى الاستحسان على المستوى الشعبي صورة «الحكومة الضخمة» المستبدة المنعكسة في النظام الضريبي الذي كان يشكل عبئاً متزايداً على كواهل البسطاء من الناس، والمصحوبة بنزعة قومية معادية للشيوعية، وعنصرية تكاد تكون مكشوفة. وبطبيعة الحال كان الجميع يفهمون من هو «محتال دولة الرفاهية»، وفيمن كان يفكر كريستول حين قال في تعليقه الساخر الشهير إن المحافظ الجديد عبارة عن «ليبرالي صدمه الواقع».

ولكن مع أفول نجم الشيوعية بات من المحتم أن يقع الصدام بين طائفتي المحافظين الجدد مرة أخرى. فقد جازفت العولمة الاقتصادية باستفزاز رد فعل معاكس من جانب الشعوبيين البسطاء، بينما اختفى العدو الجديد الذي كان يشكل الغراء الذي يمسك بين طائفتي المحافظين الجدد.

ثم جاءت الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر. ومنذ البداية كان كبار المسؤولين من المنتمين إلى عصر ريغان في غاية الانزعاج والحذر من ملاحقة رد فعل قائم على قرار أحادي. وكان من الواضح في نظر العديد من المراقبين أن خطر الأصولية الإسلامية لا يرقى إلى خطر الشيوعية، ولقد أدرك القادة العسكريون المخاطر المترتبة على نشر القوات الأميركية بأعداد قليلة نسبياً، وعلى مساحات شاسعة، وفي العراق بصورة خاصة.

إلا أن حججهم لم تلقَّ آذاناً صاغية. ففي نظر مؤسسة المحافظين الجدد، ساعدت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في خلق سياق جديد يسمح بالربط بين سعي أميركا إلى بسط هيمنتها في الخارج والقومية المتشددة في الداخل، بل وحتى الهجوم المكثف على دولة الرفاهية.

وبتوظيف شكل خام من أشكال «الواقعية»، التي كانت تنظر إلى الدولة تقليدياً باعتبارها الوحدة الأساسية للتحليل السياسي، نجح المحافظون الجدد في تصوير تنظيم القاعدة في هيئة الأعداء المعروفين، وبالتحديد الفاشية والشيوعية، والذين تساندهم الدول «المارقة» التي لا ينبغي لنا أن «نسترضيها» أبداً. وبعد ذلك ظهرت عبارة «محور الشر»، ثم «الضربة الوقائية».

إن هذا النوع الجديد من «الإفراط في الواقعية» لا يشترك إلا في القليل مع الواقعية على الطراز القديم. فلم يلجأ تشرشل وروزفلت إلى الكذب على المجتمع الدولي بشأن تهديد الفاشية، ولم يسارعا إلى بناء «تحالف الراغبين» الاصطناعي، ولم يتنصلا من المسؤولية حين قررا توظيف العنف: فقد كانت هذه هي التكتيكات التي يلجأ إليها الأعداء المستبدون. واليوم تدعونا الواقعية الحقيقية إلى إدراك القيود التي تكبل محاولات بناء الديموقراطية: التشكك في القيم الغربية المتولدة عن النـزعة الاستعمارية، والقوة المتمثلة في المؤسسات والعادات التقليدية، والشخصية التي ما زالت هشة لنظام الدولة في أغلب بلدان العالم.

ولكن مما يدعو للأسف أن الواقعية الحقيقية لم تعد تشكل عاملاً مؤثراً في هذا السياق. ونظراً الى التوتر المتأصل في محاولة تيار المحافظين الجدد الجمع بين اعتناق رأسمالية السوق الحرة العلمانية والقيم «التقليدية» في الوقت نفسه، فقد كانت إستراتيجية ذلك التيار، التي تم صقلها منذ عصر ريغان، تتلخص في إعادة رسم الخطوط الفاصلة، ثم (وكما يحدث الآن) رفع شعار «الغرب في خطر»، وهو ما يتطلب تغذية التمييز العاطفي القوي بين «نحن» و«هم».

الحقيقة أن الجاذبية الشعبية التي تتمتع بها هذه الإستراتيجية لن تنتهي برحيل إدارة بوش، وذلك لأن تيار المحافظين الجديد يتغذى على بحر من المخاوف الشعبية الراسخة في أعماق التاريخ الأميركي. وتغيير هذا الواقع لن يتسنى بمجابهة نظرة أيديولوجية جديدة فحسب، بل إن الأمر يشتمل أيضاً على ضرورة تحديد أي السياسات تعكس ما هو الأفضل في التعامل مع التقاليد السياسية الأميركية.

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة روتجرز، ومؤلف كتاب السلام البعيد المنال: رحلات الشرق الأوسط والبحث عن التسوية.«بروجيكت سنديكيت/معهد العلوم الإنسانية» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top