Ad

الاستراتيجية السليمة هي شيء فعّال زمنيا ومكانياً ومن حيث الشروط، وهي التحرّك أو سلسلة التحركات التي يمكنها أن تقود الشعب الفلسطيني خطوة أو خطوات إلى الأمام إن لم تكن تحقق له النصر النهائي، والبديهي أن الاستراتيجيّة الجيدة يجب ألا تُبقي القضية مجمدة ويجب ألا تسمح بنكسات كبيرة.

لم يتح للفلسطينيين أن يصوغوا لأنفسهم استراتيجية للنصر في الصراع مع العدو الصهيوني، فتأثروا بالأفكار السائدة في كل مرحلة محددة أو أخضعوا قضية الاستراتيجية لأحكام أيديولوجية أو «عقدية» كلية، وفي جميع الحالات لم يسألوا أنفسهم السؤال الرئيسي: هل تعالج هذه الاستراتيجية أو هذه الأحكام والتفصيلات الظروف المحددة التي يواجهها النضال الوطني الفلسطيني؟

وأظنّ أن قوة تأثير أفكار وميول العصر أو الفكر والالتزام العقدي حلّ بذاته محل التفكير بعمق في قضيّة الاستراتيجية ولم يدَعْ سبيلاً للشك في «البديهيات» أو الأحكام التي اتّخذت مقام القدسيات.

وكان هذا هو تحديداً ما ثار العلم الاجتماعي كلّه عليه لكي يمنح للناس فرصة حقيقية لأن يكون لأفعالهم معنى وقيمة وأن يكون لاختياراتهم مغزى وحُجّة بأكثر من «قواعد الإيمان».

ففي الستينيات عندما انطلقت «العاصفة» أو الثورة الوطنية الفلسطينية بقيادة فتح كان النموذج الملهم هو «حرب الشعب» والنموذج الفيتنامي.

ولكن الإلهام توقّف عند جانب وحيد وهو «شنّ الحرب» أي النضال العسكري بذاته، ولم يسأل أحد ما إذا كان النضال العسكري في الحالة الفلسطينية مناسباً للوضع الفلسطيني ولمعطيات الصراع الرئيسة أم لا؟ فالإجابة كانت ولازالت جاهزة وبديهية، وهنا كان يتم استدعاء النموذج الفيتنامي ومن ورائه النموذج الصيني لـ«إثبات» انتصار الحرب الثورية ضد الخضوم وذلك في «مخالفة» عجيبة لأوضح سمات الوضع الفلسطيني، فالشعب الفلسطيني لم يكن هو من يحارب كما فعل الفيتناميون ولم يكن هذا الشعب «يحيط» أو «يحاصر» جيشاً استعمارياً يشكل أقلية غالباً ما تسيطر على المدينة، فالنموذج الذي ضربته «فتح» كان نضالاً عسكرياً يشن من الخارج في شكل عمليات اختراق بالغة الصعوبة ضد عدو كان جاهزاً تماماً للتعامل مع هذه العمليات بكفاءة، وقد اضطر هذا الواقع حركة «فتح» لإعادة التشكل في «بنية عسكرية تقليدية» تشبه إلى حد بعيد جداً الجيوش التقليدية، وأن تبدأ حرباً استنزافية عبر ضربات مدفعية للعمق الإسرائيلي من الجنوب اللبناني، وهنا قلدت «فتح» وبقية الفصائل الفلسطينية نموذج حرب الاستنزاف المصرية خلال الفترة 1968- 1970 أكثر بكثير مما جربت النموذج الفيتنامي.

لم تكن هناك في الواقع أدنى علاقة بين النموذج الفلسطيني والفيتنامي الصيني! ومع ذلك استمر الخطاب الرسمي في استلهام نموذج حرب التحرير الشعبية! كما أنّ تطبيق نموذج الضرب بالمدفعية في العمق لم يكن سوى تقليد أعمى، فرغم تأثيره الأكبر على الاستقرار الإسرائيلي فهو لم يجب عن سؤال: ماذا لو نقل الإسرائيليون المعركة من الثبات إلى الحركة أو من الوضع ثابتاً إلى عمق الأراضي اللبنانية، كما حدث بالفعل عام 1974 وبالأحرى عام 1982؟

لم يكن هناك إذاً أي فكر استراتيجي له قوام التفكير الاستراتيجي السليم الذي يتعامل مع معطيات محددة للصراع على هذه الأرض وفي هذه الخريطة الجيوبوليتيكية، وفي هذا التوقيت ربما، حتى انفجرت الانتفاضة عام 1987 واكتشفت ما تمليه الفطرة السليمة.

إن أبسط إحداثيات الصراع، بل جميعها لم تخضع لأي نوع من التفكير المنظم، بل هي كانت بكل صراحة تعبيراً مثالياً عن هذه الجملة التي تمثّل إدانة عنصرية حقا للعرب، وهي أنهم «ظاهرة صوتية» وقد نسميها علمياً: «ظاهرة إيمانية».

إن المقصود من هذا النقد ليس الاختيار أو الاختيارات التي أخذ بها الفلسطينيون من الناحية العسكرية تحديداً، فالواقع أن هذه الاختيارات تجاهلت الإحداثيات السياسية أو الجيوبوليتيكية أيضاً، بل هي تجاهلت أكثر المعطيات حسماً على الإطلاق في أي صياغة لأسئلة الاستراتيجية وهي «طبيعة العدو».

لم يهتم أحد على الإطلاق بالربط بين «طبيعة العدو» واستراتيجية النضال، بل كان الاهتمام ببحث طبيعة العدو ضئيلاً للغاية بالرغم من القرب الشديد منه باعتباره المحتل. ولم تصدر سوى حفنة قليلة جداً من الكتب باللغة العربية تستحق التقدير العلمي عن طبيعة المجتمع الإسرائيلي.

كانت التوصيفات العامة كافية لسد احتياجات أنصار الاستراتيجيات التي أخذت بها الثورة الفلسطينية منذ البداية حتى اليوم.

والواقع أن الإجابة الوحيدة الناجحة عن سؤال الاستراتيجية كانت هي انتفاضة عام 1987، ومع ذلك لم يقدّم سوى عدد قليل جداً فهماً متعمّقاً للكيفية التي تحقق بها هذا النجاح «الجزئي بالطبع»، ولو أنّ السؤال خضع لعملية معرفية علمية لكان قد اضطرنا لإجراء بحث مستفيض في طبيعة العدو الإسرائيلي.

بل إن تجاهل الظروف السياسية الحاكمة للصراع كان أهم أسباب الافتقار إلى «فكر استراتيجي واضح وشجاع» في الحركة الوطنية الفلسطينية وذلك بالرغم من توافر عدد كبير من أنبغ الباحثين العرب الذين تلقوا تعليماً رفيعاً في العلوم السياسية والاستراتيجية في مؤسسات فلسطينية وعربية ودولية شتى.

ومن العجيب أن معظم المعطيات السياسية والجيواستراتيجية المحيطة بالشعب الفلسطيني وبالصراع الفلسطيني الإسرائيلي هي موضع الشكوى الرئيسة في الأدبيات الفلسطينية، فالجميع من دون استثناء كان يشكو من خيانة... أو تواطؤ... أو تبعية... أو عمالة... أو عداء النظم والحكومات العربية ولجوئها لطعن ظهر الحركة الوطنية الفلسطينية أو سكوتها أو في الحد الأدنى عجزها عن الدفاع عن هذه الحركة وعن الشعب الفلسطيني في معظم مراحل الصراع.

ووجه العجب هنا ظاهر ولا يحتاج إلى مزيد من الحديث والبرهنة، فطالما أن الأدبيات الفلسطينية «تشكو» فهي تنأى بنفسها عن التفكير الاستراتيجي الرصين والواقعي، وتفضل إما التوعية والدعاية أو تسجيل التاريخ أو الإدانة والتشهير، وهذه كلها ممارسات وأهداف مشروعة تماماً ولكنّها تبعدنا ولا تقرّبنا من سؤال الاستراتيجية المطلوبة لإحراز النصر في حدود ما هو واقع وما هو موجود ومن دون انتظار لظروف مناسبة على المدى الطويل جداً.

ونفس ما نقوله عن الظروف والمعطيات العربية نقوله أيضا عن الظروف والمعطيات الدولية، وكان أداء العرب عموماً في ما يتعلق بالسياسة الدولية أكثر سياساتهم نجاحاً وأكثرها إخفاقاً في الوقت نفسه، وتحقق النجاح ولو بقدر عندما فهم العرب إمكانات الواقع الدولي وفشلوا عندما تجاوزوا الفهم إلى التمني أو عكفوا على إدانة الجميع... أو الأسوأ على الإطلاق: مكافأة العدو وعقاب الصديق أو لنغير هنا الأسماء ونتحدث عن خصوم وحلفاء وليس أصدقاء وأعداء.

وعلى أي حال فإن سؤال الاستراتيجية في ما يتعلق بالصراعات الدولية الكبيرة يجب أن يستجيب لشروط أو مطالب رئيسة: فهو يجب أن يستثمر أفضل استثمار لمناطق الامتياز في الوضع الفلسطيني ويجب أن يضمن التغلب على مناطق امتياز أو قوة الخصم الإسرائيلي، كما أن التحرك الاستراتيجي المطلوب يجب أن يكون واقعياً من حيث التكلفة.

وأخيرا فالاختيار الاستراتيجي الجيد هو تحديداً ذلك الذي لا ينتظر وقوع متغير مهم في المستقبل البعيد أو ينتظره من دون ضمانات وقياسات حقيقية، والاستراتيجية السليمة هي شيء فعّال زمنيا ومكانياً ومن حيث الشروط، وإنها التحرّك أو سلسلة التحركات التي يمكنها أن تقود الشعب الفلسطيني خطوة أو خطوات إلى الأمام إن لم تكن تحقق له النصر النهائي، والبديهي أن الاستراتيجيّة الجيدة التي قد تضطر لتحقيب العملية النضالية في مراحل زمنية يجب ألا تبقي القضية مجمدة ويجب ألا تسمح بنكسات كبيرة.

انطلاقاً من هذه الأبعاد والقياسات يمكن تقديم نقد سريع كافٍ للاستراتجيات الفلسطينية حتى الآن وهو ما نقوم به في الحلقة القادمة.

* كاتب مصري