الوالد الثالث

نشر في 10-02-2008 | 00:00
آخر تحديث 10-02-2008 | 00:00
 ياسر عبد العزيز

ألف ساعة هي متوسط ما يقضيه طفل عربي سنوياً أمام التلفزيون، وأكثر من 31 ألف مشهد عنف اجتماعي وجسدي وإباحي يشاهدها هذا الطفل عبر التلفزيون، حتى يبلغ الثامنة عشرة من عمره! أهل يستحق فعلاً لقب الوالد الثالث؟

هل جربت مرة أن تسأل نفسك عن مصادر معرفة أطفالك واللغة التي يستخدمونها في الحديث معك أو فيما بينهم؟ هل وقعت في حيرة حين فوجئت بتعبير مغرق في السوقية والابتذال، أو معقد وغير مألوف الاستخدام في العائلة، على لسان واحد منهم؟ هل انزعجت في أحد الأيام من سلوك عنيف صدر عن أحدهم داخل جدران المنزل؟ هل وشى لك أحدهم عن «خطأ أخلاقي» ظهر، قبل الأوان، في سلوك آخر؟ هل ثمة من يقضي أولادك معظم وقتهم معه سواء في أيام الدراسة أو العطلات؟ هل هناك من يشغلهم عن اللعب مع بعضهم بعض، والحديث إلى أمهم، والقراءة، وإقامة الصداقات مع أقرانهم؟ هل عرفت من يشاركك في تربيتهم، يزرع فيهم القيم أو يهدمها، يسلب أوقاتهم واهتمامهم، ويشكل وعيهم أو يزيفه؟

أياً كانت إجابتك... ومهما سعيت إلى التنصل من المسؤولية عما حدث ويحدث في أسرتك؛ فالإجابة واضحة: إنه التلفزيون... الوالد الثالث The Third parent، هذا الذي دفعنا مالاً لنشتريه، ونتحكم في أدائه باستخدام المفاتيح وأجهزة التحكم عن بعد، فإذا هو يتحول شريكاً لنا غير منقوص السيادة، وبديلاً عنا أحياناً في أخطر مهامنا وأشدها حساسية وحميمية، ووكيلاً عنا عادة في أحد أهم الاستحقاقات التي نؤديها في عمرنا... تربية أطفالنا.

جئت تصطاده، فاصطادك. من خادم يؤمر فيطيع إلى والد ثالث؛ يغذي أبناءنا باللغة والمعنى ومدونة السلوك. وفي التتابع المبهر للصور والإشارات على شاشته اللامعة، وفي التناغم الشادي للأصوات والموسيقى، يقع هؤلاء الصغار، أطفالاً ومراهقين، صيداً سهلاً... عجينة لينة سلسة؛ فتتشكل تحت سطوة الوالد الثالث الألطف منك، والأكثر وجوداً في المنزل، والأقل زجراً ومللاً وإصداراً للأوامر.

من أعجب ما يمكن أن تقرأ ضمن نتائج المسوح الاجتماعية الغربية أن دراسة ميدانية أجريت على عينة من الأطفال الكنديين في سن الثانية عشرة، أظهرت أن نحو 35 في المئة منهم لا يعرفون أنهم كنديون.

كندا تلك الدولة الكبيرة حجماً وقدرة وموارد ومكانة، إحدى الدول الصناعية السبع الكبرى، والمثال المشرق لليبرالية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ومطمح الهجرة الأول في العالم، سواء لأبناء دول العالم الثالث، أو حتى أبناء الدول العظمى والغنية، لم تجلس في البيت وقتاً كافياً لتعلم أطفالها الولاء والانتماء!

تلك الدولة الغنية الكبيرة تركت أطفالها للتلفزيون الأميركي، فباتوا يتعرضون يومياً للآلة الإعلامية الأضخم والأشد بأساً في العالم؛ ففقدوا هويتهم أو كادوا. ولما لم يوجه أحد السؤال إليهم: من أنتم؟ ولما لم يقم أحد بمسؤولياته تجاهم وأخبرهم من يكونون؛ فقد اكتفوا بما تفضل به عليهم الوالد الثالث، وأصبحوا أميركيين لحين إشعار آخر.

ألف ساعة هي متوسط ما يقضيه طفل عربي سنوياً أمام التلفزيون؛ وربعها تقريباً أمام وسائط بصرية أخرى كالفيديو و«الـ دي في دي». وأكثر من 11 ألف مشهد عنف اجتماعي وجسدي، ونحو 20 ألف مشهد إباحي أو جارح أو خارق للمنظومة القيمية والأخلاقية بالمجتمع العربي يشاهدها هذا الطفل، من خلال التلفزيون، حتى يبلغ الثامنة عشرة من عمره.

ليس هذا فحسب، فقد أثبتت الدراسات أن الأطفال الذين يتعرضون للتلفزيون أكثر، ويشاهدون أعمالاً تضم مواقف يتم فيها اتخاذ حلول عنيفة إزاء بعض المشكلات الاجتماعية يتبنون مثل هذه الحلول أكثر من أقرانهم الذين لا يتعرضون لتلك المؤثرات.

فمع تراجع دور الاتصال الشفهي داخل الأسرة، وانشغالات الآباء والأمهات بالعمل أو الشؤون الأخرى يصبح الأبناء تحت رحمة طيف واسع من الاختيارات التلفزيونية التي يبدو أن معظمها سيئ.

لا شك أن تعرض الأطفال المتزايد للتلفزيون في عمر فوق السنتين فيه الكثير من المزايا والإيجابيات؛ مثل اكتساب المهارات اللغوية، وتطور الاستجابة الاجتماعية والعاطفية، والحصول على المعلومات والخبرات، وأحياناً إتقان بعض المهارات، لكن هذا لا ينفي أن مخاطره أيضاً موجودة بقوة، وبتكلفة تكاد تكون أعلى من أي عائد متوقع.

كانت المشكلة الكبيرة لدى الأبوين سابقاً تكمن في الخوف من أن يتبنى أحد الأولاد فكرة «فرافيرو»، فيرتدي رداء «سوبرمان» الخاص، ويطير من الشرفة، فيلقى حتفه، أو أن يقلد آخر مشهد الانتحار شنقاً في فيلم تراجيدي، أو القتل باستخدام آلة حادة في أحد أفلام الحركة. ويبدو أن هذه المخاوف أقل بكثير من الهواجس التي يجب أن تنتابنا الآن إذا علمنا أن ثمة دراسات أثبتت حالات تناسب طردي بين الميل إلى العنف والعادات الضارة كالتدخين والإدمان على الكحول والممارسات الإباحية وبين كثرة مشاهدة التلفزيون في غياب الآباء.

لن تستطيع أن تطرد الوالد الثالث من حياتك، بل من الأجدر أن يبقى معك ومع الأبناء، لكن لا تترك له الحبل على الغارب، لا تتركه ينفرد بهم، فأنت تعرف شطحاته ونزواته. القليل والمركز والمفيد منه، مع القراءة، وممارسة الألعاب، والتواصل الاجتماعي المباشر بينك وبين أسرتك سيحد من أخطاره ويعظم فوائده إلى الدرجة المرجوة.

* كاتب مصري

back to top