Ad

الواقع أن المجتمعات العربية مأزومة أزمة أكبر مما واجهته في تاريخها الحديث كله، وهي ممزقة بين طبقات بالغة السفاهة وطبقات أخرى بالغة الفقر والعوز. الأولى مشغولة بمصالحها وإيديولوجيتها المتعويّة وجشعها الذي لا يهدأ، والأخيرة مشغولة بلقمة العيش وفقرها الذي لا علاج له في الأفق المنظور.

في الماضي غير البعيد، كانت كلمة «التفاوض» تثير قدراً كبيراً من القلق والتطلع والإثارة والتأهب. كان الإعلام يحيط التفاوض كنسر قابض على فريسة ويحاصر المفاوضين كأنهم أسرى، وكانت الشعوب تتابع بترقب وحيطة وربما معارضة أو موافقة ما يجري في صالة المفاوضات. وكانت المعارضة والموافقة براقتين ولو بدرجات متفاوتة.

الآن، تتابع الشعوب صالات لعب تنس الطاولة، وهي لعبة ذات شعبية محدودة، باهتمام أكبر من متابعتها لصالة أو مائدة المفاوضات!

 برود فلسطيني وعربي

 لا نتحدث هنا عن مفاوضات تجري بين المكسيك والبرازيل أو بين روسيا وأميركا أو حتى بين أميركا وإيران، ولا نتحدث عن مفاوضات تجري حول شؤون التجارة في الدجاج التي تثير حروباً دورية بين الدول المحبة للدواجن وعلى رأسها أوروبا وأميركا، ولا حول شؤون الثقافة الرفيعة مثل استعادة الآثار الثقافية المسروقة أثناء عهد الاستعمار وعهد الاستقلال وما بينهما من عهود، ولا نتحدث حتى عن المفاوضات الشاقة حول استيراد وتصدير الأسلحة التي تتدفق اليوم الى المنطقة كما لم يحدث من قبل.

نحن نتحدث عن إهمال «القضية الفلسطينية» والمفاوضات التي تجري الآن بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية ممثلة فى رأس واحدة، وهى رأس أبو مازن! هل نمضي في شرح ما مثلته القضية الفلسطينية بالنسبة لنا نحن العرب؟ لا أظننا نحتاج إلى ذلك لأن كلمة «القضية» كانت تشير تلقائياً إلى مأساة فلسطين، وأوجاعنا المستمدة من فشلنا في استعادة أراضينا المحتلة منذ 1848 ثم في 1967 ومهانتنا على يد «شذّاذ الأفاق» وهزائمنا أمام «الكيان».

أما كلمة المفاوضات، فكانت تثير حروباً أهلية باردة وأحيانا ساخنة على امتداد العالم العربي. خاصم الفلسطينيون عبد الناصر ذاته لمجرد أنه قبل من حيث المبدأ «مبادرة روجرز» قبل أن تذهب روحه لبارئها بشهور قليلة عام 1970، برغم أنه كان قرر توظيف وقف إطلاق النار لبناء حائط الصواريخ وليس للهرولة طلباً لعفو إسرائيل. وتسببت مفاوضات «كامب ديفيد» في أول التصدعات الوجودية في الأمة العربية، فتم تجميد عضوية مصر في الجامعة العربية ونقل مقر الجامعة إلى تونس عام 1979. أما المفاوضات في مؤتمر مدريد عام 1991، فأنتجت على الأقل أجمل خطاب سياسي في تاريخ العرب الحديث وصاغه محمود درويش شخصياً وألقاه عبد الشافي أمام نحو ثلاثة مليارات شخص في العالم. ثم إن المفاوضات السرية التي أفضت إلى اتفاق «أوسلو» وكان اسمه عام 1993 أيضا «إعلان مبادئ»، سببت أزمة لا تقل شدة عن أزمة تجميد عضوية مصر في الجامعة العربية، ولكن بين الفلسطينيين أنفسهم، بعد رفض 14 تنظيماً فلسطينياً للاتفاق وتجميد عضويتهم في منظمة التحرير. ولم تهدأ الحرب الباردة الفلسطينية حول «أوسلو» الا عندما انبثقت الانتفاضة الثانية فى سبتمبر عام 2000. وفي كل هذه الحلقات من التاريخ الوطني الفلسطيني كانت المواقف العربية أكبر وأعلى كثيراً من أن تكون أصداءً، لأنها كانت في الواقع امتداداً لما يجري على الساحة الفلسطينية وأصلاً من أصول «القضية» لأنها لم تنفك تشكل قضية العرب بأسرهم بفقرائهم قبل أغنيائهم وأمييهم قبل متعلميهم ومحكوميهم المضطهدين قبل حكامهم «المفترين».

اليوم صار ذلك كله ذكرى بعيدة. فبرغم الحرب الأهلية الباردة التي أعقبت الانقلاب الساخن الذي طبقته «حماس» في غزة، وبرغم تمايل العرب بين منطق «فتح» ومنطق أبو مشعل، فالعرب عموماً لا يبدون أي اهتمام تقريباً بما يجرى على ساحة المفاوضات بين أبو مازن و«بن» أولمرت.

واليوم تجري فعلاً مفاوضات بين الرجلين أو السلطتين: السلطة الوطنية الفلسطينية وسلطة الاحتلال الاسرائيلي الغاشم حول «إعلان مبادئ» آخر أو جديد! وما أن تنتهي هذه المفاوضات حتى تبدأ مرحلة جديدة من التفاوض فى إطار دولي المقرر أن تعقد الشهر المقبل مباشرة في واشنطن.

المفاوضات حول «إعلان المبادئ» باهتة تماماً. ولا أعني أنها باردة أو تافهة أو جانبية: أعنى أنها فقدت أي ضوء إعلامي أو سياسي أو ثقافي فضلاً عن أي مستوى معقول أو مقبول من الاهتمام الشعبي أو حتى الرسمي العربي. ولا تثير التصريحات القليلة التي أُطلقت حولها أدنى صدى في نفوس الناس أو على شاشات التلفاز أو موجات الأثير، ولا أكاد أجد مقالاً واحداً هذا الأسبوع حول القضية برمتها! باهتة أو صامتة أو ربما «ميتة».

لماذا؟ ثمة أسباب عديدة مباشرة: الإحباط القومي العام مما جرى بين «فتح» و«حماس»، إنغلاق التوقعات الإيجابية من أي تفاوض حول «القضية» بسبب المراوغات الإسرائيلية المتكررة والدائمة والتحيز الأميركي الكامل للرؤية الإسرائيلية، انشداد العرب لقضاياهم الخاصة الداخلية أو الإقليمية أو الاثنتين، الشعور العام باليأس والهزيمة، والشخصيات المشتبكة في التفاوض التي حرمها الله من نعمة «الكاريزما» أو الجاذبية الشعبية وربما من الجاذبية الأرضية أيضاً!

 بين لقمة العيش ونقمة الجشع

 هذه الأسباب كلها قد تفسر عدم الرجاء، ولكنها لا تفسر الطابع الباهت للمعارضة التقليدية للتفاوض مع إسرائيل!... ولو أني من أتباع أبو مازن أو مبارك أو أي «قيادة» عربية أخرى لتمنيت لأول مرة أن «تسخن» المعارضة حتى «تتحمس الموالاة»، فيجدون من يؤيدهم في خطواتهم الموصوفة في العادة بالمباركة! ربما أبو مازن استثناء خاص.

لماذا تغيب سخونة المعارضة خارج دوائر «حماس»؟ لدينا بعض النظريات ويبدو بعضها صائباً إلى حد كبير.

أبو مازن يبدو استثناءً خارقاً من النمط التقليدي للسياسات العربية. فهو لا يريد موالاة متحمسة، لأنه هو ذاته فاقد للحماس ولا يثيره في أشد الموالين له إيمانا بمنهجه. وهو أيضا يريد مفاوضات سرية بعيدة عن أعين الموالين والمعارضين. وربما يكون اغتبط كثيراً بما فعلته «حماس» في غزة لأنه يحرره من قيود «الميثاق» أو الإجماع الوطني. وهو على أي حال بعيد عن أن يكون شخصية اعلامية. ولأنه كذلك فهو لا يلهب مشاعر المعارضة رغم أنها ضد ما يفعله.

النظرية الأعمق أن ثمة تسليماً عاماً بمنح «التفاوض» فرصة لأنه لا توجد «لعبة أخرى في المدينة» كما يقول الأميركيون في تعبير صار شعبياً في دوائر الدبلوماسيين. ويعني ذلك أنه طالما توقفت الانتفاضة ولم يسفر النضال العسكري عن نتيجة إيجابية، لم يعد بيد الفلسطينيين والعرب ما يفعلونه مع أو ضد المفاوضات.

ولكن هذه النظرية هي جزء من نظرية أشمل تقول إن السياسة العربية في الحقبة الحالية تعكس انقلاباً رهيباً في جدول اهتمامات العرب شعوباً وحكومات. فبينما كانت تهتم في الماضي بالقضايا السياسية والمصالح العربية العليا، صارت اليوم تهتم بشؤون الحياة اليومية وعلى رأسها الطعام والشراب. والواقع أن المجتمعات العربية مأزومة أزمة أكبر مما واجتهه في تاريخها الحديث كله، وهي ممزقة بين طبقات بالغة السفاهة وطبقات أخرى بالغة الفقر والعوز. الأولى مشغولة بمصالحها وأيديولوجيتها المتعوية وجشعها الذي لا يهدأ، والأخيرة مشغولة بلقمة العيش وفقرها الذي لا علاج له في الأفق المنظور. الأولى منسحبة من القضية الفلسطينية بسبب جشعها وضيق أفقها، والأخيرة منسحبة بسبب الانسحاق واليأس.

 *كاتب مصري