اتساع الأرض
وكما أن الله إله السماوات والأرض، وله ملك السماوات والأرض، وله ميراث السماوات والأرض فإنه خلقها على الاتساع حتى تستوعب نشاط الإنسان وحركته. مد الأرض وأقام عليها الجبال لتثبيتها، وأنبت فيها من كل شيء بقدر موزون طبقاً لحاجات الإنسان «وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ». فالجبل والنهر، الارتفاع والعمق مظهران للأرض وللعمران، للسكن والري «وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا »، للحماية بالجبال وللزراعة بمياه الأنهار «وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ»، وقد أقسم الله بامتداد الأرض «وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ». ودعا إلى النظر في الأرض كيف سطحت «وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ». وأقسم بالأرض التي طحاها «وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا». الأرض رحبة فوق الأفق دون الاختناق في أماكن مغلقة يتقاتل عليها الناس. الأرض ليست نقطة بل سطحاً وليست مكاناً بل فضاء، وليست سكونا بل حركة. والغاية الانتشار فيها والكد عليها. اتساع الأرض مثل مساواة البشر لحمل الأمانة ونشر الرسالة. لذلك انتشر الإسلام في سهول آسيا الواسعة كسرعة البرق.وكما مد الله الأرض مهدها وجعلها صالحة للسير والمشي والسعي. وجعل فيها شعاباً ومسالك وطرقاً «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا». وضع الله الأرض للأنام أي لسُكنى البشر «وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ». وذللها لهم للسير في مناكبها «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا». خلق الله السماء ثم الأرض. فلا سماء بلا أرض، ولا رأس بلا قدمين «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا». مدها كالبساط حتى يسير عليها الناس «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا». وفرشها بالخضرة والعشب كالبساط الأخضر «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا». فيستريح الناس في المشي بدلا من السير على الحصى والرمال «وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ» . ووضع فيها ما يكفي لحاجة الناس ومتطلبات معيشتهم «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا». لا يتعثر أحد في مشيه عليها. لا يقع في حفر أو بالوعات. ولا يصطدم بحجارة أو مطبات صناعية. ولا يغوص في مياه الصرف الطافحة. «والله لو عثرت بغلة في العراق لسئلت عنها: يا عمر لماذا لم تمهد لها الطريق؟».
بل إن الجنة في نفس اتساع الأرض في الدنيا «وجنة عرضها السماوات والأرض». الاتساع في الدنيا، والبراح في الآخرة. فالآخرة استمرار للدنيا في اتساع الأرض دون الضيق والحشر، كما هي الحال في توزيع الخريطة السكانية في مصر، ثمانون مليونا يقطنون في 4% من مساحتها في وادي النيل وليس في الصحراء. الاكتظاظ السكاني في مكان، وترك بقية الأماكن خاوية خالية تضييق لمساحة الأرض. في مقابل عدو يزرع المستوطنات في قلب الصحراء لتوسيع رقعة الاستيطان والانتشار في الأرض. ويبقي الأرض على الاتساع «من الفرات إلى النيل»، ومن لبنان إلى اليمن. والبدو الرحل لا يعرفون الاستقرار في الأرض إلا إذا كانت واحة للاستقرار. يسيرون في الصحراء بحثاً عن الماء والكلأ. لا يعرفون الحدود الجغرافية. فالصحراء على الاتساع مثل الأرض. لا يعرفون إلا الله في السماء والعدل في الأرض.فإذا ما ضاقت الأرض بما رحبت فأرض الله واسعة، والهجرة واجبة «أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا». فلا يجوز الفرار من الأرض. إذا ضاقت في مكان فإنها تتسع في مكان آخر «وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ». لذلك كانت الهجرة سنة الأنبياء، إبراهيم من العراق إلى الحجاز، وموسى ويوسف من فلسطين إلى مصر، ومحمد من مكة إلى المدينة، هجرات طويلة من مصر إلى فلسطين، من قطر إلى قطر أو قصيرة من مدينة إلى مدينة. تضيق الأرض في مكان، وتتسع في مكان آخر «وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا» بشرط أن تكون هجرة مؤقتة. فلا هجرة بعد الفتح. السياحة في أرض الله الواسعة أمر إلهي وضرورة بشرية «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ». وإن ضاقت عبادة الله في مكان فأرض الله واسعة «يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ». فإذا كان الجسم له حدود فإن الروح بلا حدود. الأرض كلها ميدان للجهاد في سبيل الله «وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ». يموت المجاهد في الأرض على الاتساع، ويدفن في الأرض على الاتساع، دون مقابر ومشاهد ومنازل عليها للسكنى وللاستقرار، لا فرق بين مقابر الأموات وسكن الأحياء. لذلك سوت الحركة الوهابية المقابر بالأرض. وحرم اتخاذ مقابر الأنبياء والأولياء والصالحين مزارات.ومع ذلك، ليست الأرض إلهاً، ولا يمكن تأليهها عبادة أو وعدا «أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ». الأرض من خلق الله، والسير فيها طاعة له. والانتشار عليها تسبيح وحمد وشكر. ومن ثم تبطل دعوى الصهيونية بألوهية الأرض، قطعة من الأرض، وقدسية الأرض، بقعة من الأرض.ووجود الإنسان في الأرض مؤقت. إليها يأتي، ومنها يخرج وإلى الله يعود «وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» . وهو امتحان وبلاء واختبار بعد سعي وكد واجتهاد. الأرض ميدان للعمل والكفاح. تبقى الأرض ويغادرها الكادحون. وقد يكون هذا الوجود المؤقت في الأرض عن وعي أو عن لا وعي مثل أهل الكهف «قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ» وحال النائم. وفي حالة الوعي واليقظة يدرك الإنسان أن وجوده زماني، بين الحياة والموت في لحظات العمر. يخرج منها الناس يوم الفزع الأكبر «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ». يُبعثون منها كما يولدون فيها «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ». وهو أيضا يوم النفخ في الصور «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ». وهو الانتباه عن طريق السمع والصوت. الأرض تصدع. وقد أقسم الله بها «وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ». ولا يأتي العصيان إلا من العصاة أي من المستوطنين في الأرض والمعتدين على أصحابها. التقسيمات في الأرض ضد اتساعها. والجدار العنصري العازل ضد مدها. والمستوطنات المسلحة المغلقة بالأسوار ضد الانتشار فيها. ولن يمنع الخوف ولا السكنى في الحصون من انتشار الأرض وفتحها «وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ». ولن تمنع البروج من موت المعتدين، «أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ».* كاتب ومفكر مصري