«الشورى» التي يفضلها الإسلاميون تقوم أساساً على حق الاختلاف وشرعيته. فاختلاف الآراء مثل اختلاف الليل والنهار واللغات والشعوب والقبائل والعادات والتقاليد. واختلاف الأئمة رحمة بينهم. والكل رادّ ومردود عليه. لذلك نشأ علم الخلاف في الفقه وعلم التعارض والتراجيح في أصول الفقه. وذلك ضد الانفراد بالرأي والقرار حماية لمصالح الأمة من الانفعالات والمصالح والأهواء.«الإسلام الديموقراطي» إحدى صياغات اليسار الإسلامي وتسمياته. وهو موجود بالفعل في مصر وتونس. ويعني قبول التعددية السياسية والنظام الحزبي والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، بعيداً عن العنف واستعمال القوة للوثوب على السلطة بتنظيمات علنية أو سرية. وهي تسمية طبيعية بعد «الإسلام الليبرالي»، حرية الفرد أولا ثم ديموقراطية الحكم ثانياً.
ولفظ «الديموقراطية» أيضاً لفظ معرب مثل «الليبرالية». وأصبح أيضاً متداولاً وشائعاً. ويعني حكم الشعب على النقيض من حكم الطغاة، كما حدث عند اليونان. ويفضل الإسلاميون استعمال لفظ «الشورى». وعلى الرغم من الخلاف فى الآليات بين «الديموقراطية» و«الشورى»، فإن الاتفاق في الروح. وهو ضد حكم الفرد وانفراده بالرأي والقرار. ويصر العلمانيون على أن الخلاف بينهما كبير. وهما أقرب إلى الاختلاف منهما إلى الاتفاق. والحقيقة أن الخلاف في استعمال اللفظ بين الإسلام الديموقراطي والعلماني الغربي، إنما هو صراع على السلطة. فالإسلاميون يريدون إعادة صياغة إسلام مدني قادر على التعامل مع بقية الاتجاهات السياسية في إطار من شرعية الدولة. والعلمانيون الغربيون يريدون حصار الإسلاميين في المحافظة الدينية، حتى يفسح لهم المجال وحده للعمل السياسي الشرعي خوفاً من شعبية الإسلاميين وقدرتهم على حشد الجماهير.
والمعنى الشائع لا خلاف عليه. فالسلطة للشعب وليست للرئيس، واحترام سلطة الأغلبية وأولويتها على سلطة الأقلية، وحرية الصحافة وأجهزة الإعلام، والفصل بين السلطات، واستقلال القضاء. الديموقراطية بهذا المعنى الشائع أفضل من الأوتوقراطية، حكم الفرد المطلق وحكم الأقلية وحكم الطبقة. ومع ذلك الديموقراطية في آلياتها الغربية لها حدودها باعتراف أنصارها أنفسهم. فهي تصور كمي يقوم على قسمة الشعب إلى أغلبية وأقلية. الأغلبية في الحكم، والأقلية في المعارضة. للأغلبية الحق في إصدار القرارات في النظام السياسي، اشتراكية أو رأسمالية، وفي العلاقات الدولية، حرباً أم سلماً. فإذا ما أصبحت أغلبية اليوم أقلية في الغد وأصبحت أقلية اليوم أغلبية في الغد، تتغير القرارات السياسية. وما كان حقا يصبح باطلاً، وما كان باطلاً يصبح حقاً. ولا يوجد نظام قيمي يحكم ديكتاتورية الأغلبية وتبعية الأقلية أو اتفاق الأغلبية والأقلية على القهر والغلبة، كما حدث في النازية والفاشية، أو على تأييد الغالب على المغلوب والقوي على الضعيف والظالم على المظلوم، كما يحدث الآن في تأييد اغتصاب إسرائيل لفلسطين وطرد الشعب الفلسطيني خارج وطنه في المخيمات أو إلى بلاد المهجر. فلا فرق بين الجمهوريين والديموقراطيين في الولايات المتحدة الأميركية أو بين العمال والمحافظين في بريطانيا في العدوان على العراق وأفغانستان وتأييد اغتصاب فلسطين. لا فرق بين أقلية وأغلبية لاجتماعهما معاً على إيديولوجية الغزو العسكري للأوطان، واغتصاب حقوق الشعوب.
وتقوم الديموقراطية على تصور فردي، صوت واحد لكل فرد بصرف النظر عن علمه أو جهله، اختصاصه أو عدم اختصاصه، وعيه أو عدم وعيه، استقلاله أو تبعيته، حضوره أو غيابه، التلاعب بصوته أو احترامه. كما أنه يخضع لقوة الإعلام والدعاية الانتخابية للمرشحين وانتماءاتهم القبلية أو الطبقية. تتحكم في الانتخابات «الأعمال القذرة». ولم تمنع الديموقراطية في النهاية من شتى أنواع الفساد والرشوة والتهرب من الضرائب.
أما «الشورى» التي يفضلها الإسلاميون فإنها تقوم أساسا على حق الاختلاف وشرعيته. فاختلاف الآراء مثل اختلاف الليل والنهار واللغات والشعوب والقبائل والعادات والتقاليد. واختلاف الأئمة رحمة بينهم. والكل رادّ ومردود عليه. لذلك نشأ علم الخلاف في الفقه وعلم التعارض والتراجيح في أصول الفقه. وذلك ضد الانفراد بالرأي والقرار حماية لمصالح الأمة من الانفعالات والمصالح والأهواء. الأقلية لها نفس احترام الأغلبية. ويكون الإجماع ناقصا حتى ولو عارض واحد فقط. هي ديموقراطية توافقية للوصول إلى رأي واحد عليه إجماع الأمة. تخضع لنسق من القيم. فالحق ليس مشروطاً بإرادة الأغلبية. ولا الباطل مشروطاً بإرادة الأقلية حتى لا يصبحا نسبيين، يتغيران بتغير أصوات الناخبين. نسق القيم مستقل عن أهواء البشر. الحق حق، والباطل باطل. والعدل عدل، والظلم ظلم، بصرف النظر عن إرادات البشر. إنما الخلاف في مدى إلزامها. البعض يجعلها ملزمة، والبعض يجعلها استشارية. فالقرار في النهاية للرئيس. وهو الإمام بتعبير القدماء. وهو مبايع من الناس وليس معيناً من رئيس سابق أو من وصية أو من عهد أو من نص. وكما قال القدماء «الإمامة عقد وبيعة واختيار». والعقد شريعة المتعاقدين بين الحاكم والمحكوم. يطيع المحكوم الحاكم طالما أطاع الحاكم القانون والدستور. ويعصي المحكوم الحاكم إذا ما عصى الحاكم القانون والدستور وفسخ العقد من جانبه. ويحق للمحكوم الخروج على الحاكم بعد استيفاء وسائل النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحسبة. وهي الوظيفة الرئيسية للحكومة الإسلامية. فالحكم الإسلامي ليس ثيوقراطيا، بل حكم القانون. والحاكم مبايع من الناس وممثل لهم وليس معينا لله وممثلاً له. والحكم مدني وليس إلهيا، سياسي وليس دينياً، نسبي وليس مطلقا.
قد يعيب العلمانيون على الشورى أنها حكم الأقلية، وأن البيعة من أهل الحل والعقد وليس من جمهور المسلمين. هل هي بالانتخاب أم بالتعيين؟ هل هم رجال الأحزاب أم أهل الاختصاص؟ والحقيقة أن هذه كلها صياغات مختلفة متروكة لحكم البشر. فبعض النظم يفضل انتخاب الرئيس بالاقتراع العام. والبعض الآخر يفضل انتخابه من البرلمان. فالديموقراطية التمثيلية ليست غاية في ذاتها، بل هي وسيلة لمنع عدم الانفراد بالرأي والتفرد بالقرار. وكثيراً ما قامت تجارب التنمية وبناء الدول وتحقيق المشاريع القومية بالتوافق الوطني وأحيانا بسلطة الدولة كما تم في اليابان وكوريا الجنوبية ومصر في دولة محمد علي وعبد الناصر. ويمكن تحقيقها بوسائل أخرى. والأفضل بطبيعة الحال بالوسائل الديموقراطية السائدة هذه الأيام لتجميل النظام السياسي التي ليس لها أي أثر في الحياة السياسية. وظيفتها تبرير القرارات السياسية لحكم الفرد المطلق كما تفعل المجالس النيابية.
لقد استشارت الملكة سبأ في أمر سليمان، قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدوا. لا فرق في ذلك بين رئاسة الرجل ورئاسة المرأة. وقد كان الرسول يستشير أصحابه. «لا خاب من استشار».
كاتب مصري