رمضان في السُّنة النبوية 1
كيف إذن تكثر الذنوب في رمضان، والسحور في الفنادق الضخمة على أحواض السباحة ونفحات الرقص الشرقي؟ تتحول سعادة الروح في كثير من الأحيان إلى انفلات البدن، وتأخذ الأرض زخرفها وتتزين وكأن الدنيا هي الباقية. صيام بالنهار جوعاً وعطشاً، وإفطار بالليل لهواً ولعباً باسم رمضان، الشهر الكريم!
ويستمر الحديث النبوي في المعاني القرآنية نفسها لصوم رمضان: عبادة، ومغفرة، وتكفيراً للذنوب، واعتكافاً في العشر الأواخر، وليلة القدر ونزول القرآن، والثواب في الجنة، وحسن الأخلاق والسيطرة على الانفعالات أثناء الصيام، والإحساس بالوقت، واختيار صوم عاشوراء، وعدم المشقة على الناس جمعا بين الصوم والإفطار، وأداء الصوم عن الآخرين خصوصا الوالدين.فصوم رمضان طريق إلى المغفرة «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه». فالصيام لوجه الله وليس رياء للناس أو طلباً لحظوة في أعين المؤمنين، طالباً الثقة بهم لمنصب أعلى أو لرياسة دنيوية. وليس تجويعاً للنفس بالنهار ثم إشباعاً للبدن في آخره، وكأن الزهد في الدنيا أعقبه شبق فيها. حرمان بالنهار وإشباع بالليل. وتزيد معدلات الاستهلاك في العالم الإسلامي من الأطعمة والأشربة، السكر والزيت والدقيق واللحوم والخضروات والفواكه والطاقة في رمضان باسم الزهد والإحساس بالفقراء. ويزداد اللهو بالليل، وتجند أجهزة الإعلام أنفسها قبل رمضان بأشهر من أجل إعداد المسلسلات والبرامج الدينية والابتهالات والأفلام والحفلات الخاصة لا فرق بين دين ودنيا.إن الصيام لا يكون إلا لله وحده. «قال الله كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به». الصيام إذن دليل صدق وعلامة إخلاص، لا طلباً لرزق في الدنيا، بل يكون احتسابا لوجه الله، علاقة بين العبد والرب. لذلك كان جزاء الصائم الجنة. فيها باب لا يدخل منه إلا الصائمون «إن في الجنة باباً يقال له الريّان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم. يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم. فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد». الصيام إذن عبادة خاصة تتجه إلى الله مباشرة بالرغم مما فيها من كمال للنفس، وسيطرة على الإرادة، وإحساس بالآخرين. «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة»، فالصيام توبة غير معلنة، ومناسبة للمغفرة، وطريقاً إلى السعادة الأبدية. فكيف إذن تكثر الذنوب في رمضان، والسحور في الفنادق الضخمة على أحواض السباحة ونفحات الرقص الشرقي؟ تتحول سعادة الروح في كثير من الأحيان إلى انفلات البدن، وتأخذ الأرض زخرفها وتتزين وكأن الدنيا هي الباقية. صيام بالنهار جوعاً وعطشاً، وإفطار بالليل لهواً ولعباً باسم رمضان، الشهر الكريم!ومن مظاهر العبادة في رمضان الاعتكاف في العشر الأواخر منه، فرمضان شهر في العام. تركيزاً للوقت، وإذكاء لعلاقة الإنسان بالله من أجل تقوية علاقة الإنسان بالعالم وبالناس. والعشر الأواخر منه قمة الزمن في رمضان، نوع من العزلة الروحية مرة في العام بعيداً عن هموم الدنيا بما في ذلك النساء وآل البيت. وقد كان الاعتكاف سُنة جاهلية قبل الإسلام استمرت بعده وأقرها الرسول تواصلاً مع الماضي. فقد سأل عمر النبي انه كان قد نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فأجابه الرسول «أوف بنذرك». فالوفاء بالنذر عبادة وقيمة إسلامية. وقته العشر الأواخر من رمضان في الثلث الأخير من شهر الصوم حين يبلغ الصوم الذروة وقبل وداع الشهر الكريم. الاعتكاف راحة من مجموع العلاقات الاجتماعية، الأهل والأقارب والأصدقاء، رجالاً ونساءً، من أجل تقوية الذات حتى لا تضيع في تشابك العلاقات الشخصية والاجتماعية وتضعف أمام الآخرين «من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر». وفيه تتجلى الروح، وتكون أقدر على الرؤية الصادقة نظراً إلى شفافية النفس وقدرتها على قراءة المستقبل وارتياد المجهول «من كان اعتكف فليرجع إلى معتكفه فإني رأيت هذه الليلة ورأيتني أسجد في ماء وطين». فالبدن لا يستطيع إدراك إلا الحاضر من خلال الحواس في حين أن الروح تستطيع استدعاء الذكريات واستشراف المستقبل مادامت قادرة على العمق الداخلي، والتحول من الخارج إلى الداخل حتى يتم التحول من الداخل إلى أعلى. تنعكف على الذات فتسمو إلى الآفاق. ولما اعتكف الرسول وأذن لعائشة بالاعتكاف بعد طلبها وأقامت خباء تعتكف فيه ثم قلدتها بقية زوجات الرسول، حفصة وزينب تساءل عن الدافع لذلك «ما حملهن على هذا البر، أنزعوها فلا أراها». واعتكف فى العشر الأواخر من شوال حتى تكون العزلة كاملة ويكون الاعتكاف تاماً. وعندما زارته زوجه صفية في اعتكافه خشي الرسول مما قد يدور في قلوب الناس «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً» متوجهاً إلى رجلين من الأنصار مرا على باب المسجد. فالاعتكاف اكتشاف مطلق لعالم الذات وغوص فيها من دون شبهة أو إغراء.إذا كان شهر رمضان هو قمة زمان السنة، شهراً من اثني عشر شهراً، وكان الاعتكاف في العشر الأواخر منه قمة زمان هذا الشهر فإن ليلة القدر هي قمة قمتي الزمان، وقت مركز للغاية، ليلة واحدة في العام يقوى فيها الاتصال بين العبد والرب، الاتصال الفكري والروحي. انزل فيها القرآن، بداية الاتصال بين السماء والأرض، في وعي الرسول وإبلاغه للناس. وهي ليلة المغفرة إذا ما كان قيامها احتساباً لوجه الله وليس طلباً لغنم أو سؤالاً لرزق أو استجداء لأحد مطالب الدنيا. «ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه». هي ليلة الصفاء وعودة النفس إلى براءتها الأولى بعيداً عن هموم الدنيا وأهواء البشر، والمساومات على الحق وحب المغانم وزيادة الأرزاق. ووقتها محدد وغير محدد، محدد بالعشر الأواخر من رمضان، وغير محدد لأنها غير معينة اليوم حتى يظل جهد الإنسان قائماً في بحبوحة من الزمان، وحرية من الفعل ومن دون ارتباط ضروري بين المنتظِر والمنتظَر، بين السؤال والجواب، أشبه بالتراخي في الوقت في الصلاة، لا هو على الفور ولا هو قضاء. «تحرروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان». ومع ذلك فإنه يمكن تحديد وقت أيضاً غير محدود. فهي ليلة وتر، في التاسعة أو السابعة أو الخامسة في العشر الأواخر «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة». والوتر إشارة إلى التوحيد، وحدانية الله. وبالوتر كان القسم (والشفع والوتر 3:89). وهو عدد غير قابل للقسمة مثل صفة الواحد. «فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر». ولا يكون الانتظار بالساعة واليوم المحددين فذلك انشغال للقلب، وخروج على الاعتكاف. وليس انتظاراً لشيء هابط من السماء يحمل الذهب والفضة والأرزاق. فتلك هموم الدنيا التي أبعدها الاعتكاف. ولا يكون الانتظار على الأسطح أو من الشرفات والنوافذ بالنظر خلف كل كوكب وحول كل نجم. إذا لمع شاهد الناس جبريل. وإذا برق رأى الناس ملائكة السماء. إنما الانتظار داخلي، مع التركيز على النفس ومزيد من الإخلاص والتجرد حتى تنفتح طاقة السماء في القلب.*كاتب ومفكر مصري