Ad

المؤكد أن حالة الغيبوبة العربية الشاملة رسمياً وشعبياً هي فرصة العمر لأميركا وإسرائيل «لاختطاف تسوية» مرحلية أو دائمة من الرجل الذي يلعب دور «البطل-المضاد» في الحركة الوطنية الفلسطينية.

لا تكاد المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية بشأن ما يسمى إعلان المبادئ، ولا تكاد فكرة المؤتمر أو الاجتماع الدولي في الولايات المتحدة في نوفمبر أو ديسمبر المقبلين تلفت نظر العرب على المستويين الرسمي والشعبي معاً.

فعلى المستوى الشعبي لم يهتز أي مجتمع عربي للأنباء عن المفاوضات الثنائية الجارية فعلاً، ولولا العادة لما كان حتى الإعلام العربي قد قام بهذه المتابعة الروتينية لزيارة السيدة كوندوليزا رايس للمنطقة ولقاءاتها مع المسؤولين العرب والفلسطينيين يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين. ولو راقبنا الكتابات الصحفية العربية بدقة لأمكننا أن نلاحظ الفتور والاستخفاف العام بهذه المفاوضات، فضلاً -بالطبع- عن الاستقطاب البارز في الموقف منها. ولا يبدو أن ندوة أو مؤتمراً أو مناقشة عامة قد عقدت في أي بلد عربي أو برعاية هيئة أو حزب أو حركة شعبية أو جامعة أو منبر سياسي أو ثقافي بشأن هذه المفاوضات بما يشير إلى الاهتمام الشعبي بها، ويبدو عدم الاكتراث أشد بروزاً في الموقف الرسمي من هذه المفاوضات.

وكانت العادة تُجبر الحكومات المصرية والأردنية والسعودية بالذات على القيام بتحضيرات ما مهمة للقاء وزيرة الخارجية الأميركية أو للعملية التفاوضية نفسها أو للحوار مع الفلسطينيين بشأنها. هذه المرة لم تبدِ أي من هذه الحكومات اهتماماً يذكر قبل أن تأتي السيدة كوندوليزا رايس إلى المنطقة. ويلاحظ أن أداء المسؤولين العرب في غضون هذه الزيارة كان أكثر روتينية من أي وقت سابق، ولم يكد السيد وزير الخارجية المصري يبدي ملاحظة عابرة يفهم منها رغبة مصر في تأجيل المؤتمر الدولي حتى يتم الاتفاق على تفاصيل إجرائية مهمة، لاسيما في ما يتعلق بالسقف الزمني، حتى عاد ليبتلعها وينساها كأنها لم تكن. والواضح أنه تلقى تعليمات عليا بأن «يمرر» فكرة المؤتمر الدولي رغم كونه ملفوفاً بالغموض في كل ما يتعلق بتفاصيله الإجرائية والمضمونية معا.

وحتى المثقفون والمشتغلون بالشأن السياسي المباشر لم يهتموا بالأمر كله، فلم يصدر بيانٌ من أي جماعة ثقافية أو سياسية مهمة، ولم يقدِم حزب سياسي في أي بلد عربي مهم -باستثناء سورية- على إبراز موقف مؤيد أو معارض للدعوة الأميركية إلى مؤتمر دولي لتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

تفسير الفتور

التفسير الذي يقترح نفسه لظاهرة التجاهل العربي الشعبي والرسمي للمؤتمر الذي دعا إليه الأميركيون هو اليأس التام من أن يحقق هذا المؤتمر أي نتائج إيجابية. لا أحد يثق بالأميركيين خصوصاً بإدارة بوش، ولا أحد يتوقع خيراً منها، ولا أحد يرى أن الوقت مناسب للانخراط في مفاوضات للتسوية، ولا أحد ينظر بجدية إلى الموضوع كله، وثمة انطباع عام بأن المؤتمر أو كما أسمته السيدة رايس أخيرا الاجتماع الدولي ليس سوى دخان من دون نار، أو ستائر من الدخان يراد بها التغطية على السياسات والنوايا العدوانية الأميركية والإسرائيلية في المنطقة. ويشارك أكثر المراقبين في الاعتقاد بأن بوش دعا إلى هذا المؤتمر للتغطية على نواياه في التصعيد ضد إيران وربما ضربها عسكرياً.

الأجواء الأميركية

هذه الأجواء السائدة في العالم العربي تتناقض مع ما يسود الأوساط السياسية في واشنطن وأيضاً في عدة عواصم أوروبية. لا يسود التفاؤل هذه الأوساط، ولكنّها تتعامل بجدية واهتمام مع دعوة بوش، ووجهة النظر السائدة بين المراقبين السياسيين في أميركا وأكثر الدول الأوروبية أن الفكرة جادة وأن إدارة بوش ربما تُظهِر لأول مرة منذ تنصيبها بداية عام 2001 اهتماماً حقيقياً بدفع التسوية السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وعلى عكس وجهة النظر السائدة في العالم العربي أيضاً ترى الأوساط السياسية الأميركية والأوروبية أن ثمة فرصةً سانحةً لإبرام اتفاق «سلام» بين الفلسطينيين والإسرائيليين رغم كل الصعوبات المعروفة، بل إن الأوساط الإسرائيلية -وهي في أغلبيتها متشددة- تشارك المراقبين الأميركيين والأوروبيين الشعور بأن ثمة شيئاً «جاداً» يطبخ على نار هادئة وأن إدارة بوش مهتمة فعلاً بدفع الطرفين إلى تسوية ما أو إلى التقدم على طريق التسوية.

إدارة بوش نفسها لاسيما السيدة رايس تعمدت «تخفيض التوقعات» خصوصاً في واشنطن نفسها، وهو ما يعني أنها تشعر بالضغط بما يكفي لاستنتاج الحاجة للتحفظ على مناخ «التفاؤل» بين الأوساط السياسية بأن تسوية ما قد تنتج عن الاجتماع أو المؤتمر الدولي. كيف نفسر إذاًَ هذا التناقض في التقويم والتوقعات؟

تفسير مضاد

يمكننا في الحقيقة أن نفسر ما يحدث بمنطق يسير في الاتجاه العكسي للحالة العربية العامة. هذه الحالة تعلن اليأس من إمكان نجاح مؤتمر بوش الدولي ومن ثم تنظر بعدم اكتراث إلى هذا المؤتمر بل إلى كل العملية التفاوضية.

ولكن التفسير الواقعي يمكن أن يكون هو النقيض التام لهذه الأجواء العربية، بمعنى أن الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية تنتهز فرصة البرود العربي، في ما يتعلق بالمفاوضات الجارية منذ أكثر من شهر على المستوى الثنائي لكي تدعو وتعمل جاهدة لعقد هذا المؤتمر، ولكي يخرج بنتيجة ما. قد تكون هذه النتيجة اتفاق تسوية نهائياً أو سلسلة من الاتفاقات تقود الواحدة إلى الأخرى بفاصل زمني قصير أو متوسط.

من وجهة النظر الأميركية فشلت المفاوضات السابقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين لأن دولاً عربية عدة تدخلت تدخلاً سلبياً في المفاوضات ولأن المناخ الشعبي العربي معبأٌ بالتحريض والتشهير بكل سياسيٍّ فلسطينيٍّ قد يبدي «مرونةً» في العملية التفاوضية. ومن هنا يرى الأميركيون أن البرود العربي أو مناخ عدم الاكتراث بالمفاوضات يخفف الضغط عن المفاوضين الفلسطينيين، وقد يمنحهم فرصة مثالية للتفاوض بعيداً عن مناخ الاثارة والعواطف المتأججة ويتيح بيئة مناسبة للحسابات الباردة والتنازلات غير المقبولة شعبياً.

ومن هذا المنظور فإن التجاهل العربي واسع النطاق للعملية التفاوضية الراهنة قد يكون فرصة لأن «يخطف» الأميركيون والإسرائيليون «اتفاقاً» سريعاً من أبو مازن الذي أظهر استعداداً واضحاً للقيام بتنازلات والتوصل إلى تسوية بأقصى سرعة ممكنة.

أبو مازن من ناحيته معروف بآرائه الخاصة التي تحبذ تسوية سياسية مع إسرائيل حتى لو تضمنت تنازلات جوهريةً، وحتى لو وضعته في تناقض مع دولة عربية أو أكثر. أما الجديد فهو أن الاختيارات المتاحة لأبو مازن تضيق بشدة سواءٌ بسبب تحدي «حماس» أو بسبب الأوضاع الاقتصادية المأساوية في الأرض المحتلة أو التمزقات الثقافية والسياسية الأوسع في المجتمع السياسي الفلسطيني. وأن آماله في البقاء في الرئاسة صارت تتوقف على إمكان الحصول على اتفاق جوهري أو نهائي قابل للتسويق باعتباره «الحل الوحيد الممكن» في الأمد المنظور.

والواقع أن أبو مازن قد يفاجئ الجميع بتنازلات أوسع بكثير مما يعتقد حتى المتشائمون، وأنه قد يفعلها مثلما فعلها الرئيس المصري الراحل أنور السادات بالضبط، وبتوظيف نفس الحجج تقريباً، والحجة التي قد تحظى بقدر كبير من القبول في أوساط النخبة الفلسطينية هي اليأس من «الحل العربي». ويردد قطاع كبير من النخبة السياسية الفلسطينية أنه لا أمل في العرب وأنه لم يعد هناك مجال للرهان على الإسناد العربي.

وبينما قد تنشط معارضة شعبية لاحقة لاتفاق يعقده أبو مازن، فالفتور الشعبي الراهن حتى في الأرض المحتلة قد يمنحه حرية حركة كبيرة في المفاوضات مع إسرائيل، وفي ظل «الاجتماع الدولي» في أنابوليس، والمؤكد هو أن من مصلحة أميركا وإسرائيل انتهاز فرصة البرود وعدم الاكتراث العربي بعملية التفاوض الجارية الآن لعقد مؤتمر برعاية بوش وتأييد ضمني من مصر والأردن ودول الخليج الست ينتهي إلى اتفاق ينهي حقبة النضال الوطني الفلسطيني الطويل.

المؤكد أن حالة الغيبوبة العربية الشاملة رسمياً وشعبياً هي فرصة العمر لأميركا وإسرائيل «لاختطاف تسوية» مرحلية أو دائمة من الرجل الذي يلعب دور «البطل-المضاد» في الحركة الوطنية الفلسطينية.

* كاتب مصري