درب الخيانة: فصول من مكامن نظام صدام صدام... المتآمر الأول تفاصيل الانقلاب على عارف وأسرار العلاقة العراقية - الفرنسية

نشر في 20-09-2007 | 00:00
آخر تحديث 20-09-2007 | 00:00

تتناول هذه الحلقة تفاصيل انقلاب عام 1968، الذي جاء بحزب البعث الى الحكم في العراق مرة ثانية بعد أن كانت فشلت حركة 14 رمضان 1963، التي قادها علي صالح السعدي باسم الحزب، حيث تولى السلطة لعدة أشهر ثم أطاح به انقلاب آخر قام به عبد السلام عارف.

ويقول الكاتب إنه اعتمد في تسجيل هذه الأحداث التاريخية على وثائق رسمية وضعتها القيادة القومية وجهاز المخابرات، وعلى شهادات عدد من البعثيين.

كما يخبر بلوط عن خلفية العلاقة العراقية - الفرنسية ابان النظام العراقي البائد، واضعاً سردا تفصيليا للتحذير الفرنسي الذي سبق قصف الطائرات الإسرائيلية لمفاعل اوزيراك، إذ أدى إهمال صدام إلى تدمير المفاعل بالكامل.

«... فبعد نجاح عبد السلام عارف في حركته الانقلابية، اعتقل عددا كبيرا من البعثيين وكان من بينهم صدام الذي وجه نشاطه، وهو في السجن، الى تجنيد حراسه والاتصال بالخلية البعثية السرية الموجودة في الخارج عن طريق زوجته ساجدة. كان صدام يصدر تعليماته مكتوبة على أي ورقة يحصل عليها بعيداً عن عيون الحراس. وعندما تأتي ساجدة الى زيارته كان يمرر لها هذه الأوراق فتضعها داخل ثيابها.

واستطاعت ساجدة أن تجند عدداً من النساء التكريتيات لمساعدتها في تنفيذ هذه المهمة. وكانت فترة سجنه محطة لبروزه حزبياً، حيث تمكن من تشكيل خلية خاصة به، ثبت في ما بعد انها كانت الركيزة الأساسية التي اعتمدها لانطلاقته نحو تسلم مقاليد الحكم كنائب للرئيس في اليوم التالي لنجاح حركة 17 يوليو 1968.

في 16 يوليو، أي قبل يوم واحد من تنفيذ خطة الانقلاب، اجتمعت القيادة القطرية (وكانت لا تزال تعمل تحت الأرض) لوضع اللمسات الأخيرة على تفاصيل خطة الانقلاب. ومن دون معرفة الأعضاء، كان صدام قد عقد سلسلة اجتماعات مع عبد الرزاق النايف، مدير المخابرات العسكرية في عهد عبد الرحمن عارف، واتفق معه على الاشتراك بالعملية دون أخذ موافقة أعضاء القيادة.

في 15 يوليو، اجتمع صدام سراً بالنايف واتفق معه على أن يبعث رسالة في اليوم التالي الى القيادة البعثية يعلن فيها استعداده للاشتراك بالانقلاب، على أن ينقل صدام هذه الرسالة الى رفاقه. وعندما حصل ذلك ارتفعت أصوات الاحتجاج من معظم الرفاق الذين اجمعوا على المطالبة بتأجيل ساعة الصفر للانقلاب التي كانت محددة في اليوم التالي، أي 17 يوليو، باعتبار أن خطتهم تسربت.

ودار نقاش اتسم بالحدة خاصة عندما اقترح صدام أن ينضم النايف الى المجموعة الانقلابية، باعتبار أن النايف معروف بعلاقته الوثيقة بالأميركيين والانكليز. وأسقط اقتراح صدام عندما طرح الأمر للتصويت فجاء الرفض بالاجماع، وكذلك نجح اقتراح بتأجيل تنفيذ العملية. لقد أوقع صدام نفسه في المشكلة وعليه أن يجد طريق الخروج منها. طلب الكلام حيث فجر قنبلته الثانية. قال ما حرفيته: أولاً نعمل على تحييد النايف وبعد استلام الحكم نتخلص منه خلال أسبوعين لا أكثر. في الواقع، أنا أخجل أن أطلب تكليفي بمهمة ما، ولكني لا أخجل في أن أطلب منكم الموافقة على تكليفي شخصيا بهذه المهمة المشرفة. اقترح عليكم أن تصوتوا على قرار تكليفي، أنا صدام التكريتي بها. لقد وضعت خطة التنفيذ (تصفية النايف) ولا أريد أن أناقشها هنا اليوم. ما أريده هو أن تعطوني حق اختيار اللحظة والأسلوب للخلاص من النايف خلال فترة الأسبوعين.

تشير السجلات الرسمية السرية التي اطلعت عليها الى أن صدام استطاع بكلمته هذه أن يقلب الموقف لمصلحته. وتمت الموافقة بالاجماع على اقتراحه. وهكذا عادت خطة الانقلاب لتقف على رجليها من جديد.

أحمد حسن البكر، الذي كان مكلفاً بشؤون الجيش، أصرّ على تلافي سفك الدماء عند تنفيذ الحركة الانقلابية قائلاً: ما يأتي بالدم يذهب بالدم.

في اليوم التالي (17 يوليو)، وحسب الخطة الموضوعة توجه صدام الى القصر الجمهوري على رأس فرقة من الدبابات. عند اقترابه من المدخل الرئيسي شاهد صدام أحد الحراس يأخذ مركزاً للقتال. كان صدام على رأس الدبابة الأولى حين قال للجندي: الحمد لله أنت معنا يا أبو خليل. (هذا الإسم يطلق تحبباً الى الجنود وعناصر الشرطة). رئيس الوزراء طاهر يحيى قام بانقلاب ضد الرئيس عارف وقد جئنا لحمايته. ولإلغاء احتمال أن يكون الجندي أكثر ذكاء، صدام نزل عن الدبابة وأخذ سلاح الجندي داعياً إياه الى ركوب الدبابة معه قائلاً: يا ابني أنا ضابط مشاة ولا أفهم أي شيء عن الدبابات. هل تستطيع أن تشرح لي كيف استخدم مدفع الرشاش؟

ودخل الرتل القصر الجمهوري وكان النايف وقائد الحرس الجمهوري ابراهيم الداوود، بانتظاره حسب الخطة الموضوعة. توجهوا رأساً الى مكتب عبد الرحمن عارف وأعطوه خيارين لا ثالث لهما: الاستقالة فوراً أو القتل فوراً. واختار رئيس الجمهورية الحل الأول. وخرج صدام الى باحة القصر، حيث كان بانتظاره رتل الدبابات، وأعلن لهم أن الخطة قد نجحت وأن عبد الرحمن عارف يكتب الآن استقالته. فأطلق الجنود عيارات نارية ابتهاجاً. فقتل أحد الجنود برصاصة طائشة. وحقق صدام ما وعد أحمد حسن البكر به، أي بتلافي اهدار الدم. وعرف الانقلاب بالانقلاب الأبيض.

وهكذا بدأ اليوم الأول في حكم صدام الذي دام نحو 35 سنة. وكان عليه أن ينفذ ما وعد به القيادة القطرية بالخلاص من عبد الرزاق النايف خلال فترة أسبوعين من نجاح الانقلاب. لكن منذ اللحظة الأولى بدأ يتبع استراتيجية إحكام قبضته على السلطة بتصفية أو إبعاد خصومه المعروفين أو المحتملين حتى ولو كانوا من داخل الحزب.

كانت خطة تصفية النايف بسيطة وسهلة تحمل طابع الغدر أكثر من العنف. دعا أحمد حسن البكر النايف، الذي عُين بعد الانقلاب رئيساً للوزراء، الى تناول الغداء معه في القصر الجمهوري. بعد الانتهاء من تناول الطعام اقتحم صدام الغرفة مع أربعة من رجاله يحملون الكلاشنيكوفات. وبعد أن أنهى البكر دوره في الخطة كطعم انسحب من غرفة الطعام تاركاً رئيس وزرائه بين يدي صدام ورجاله. صدام كان مباشراً ومختصراً. قال للنايف وهو يضع فوهة الكلاشنيكوف على صدره: عبد الرزاق اللعبة انتهت. أنت تعرف أنك دخيل على ثورتنا وأنك تشكل عقبة صغيرة يجب ازالتها. لا نريد قتلك وأنت تعرف ذلك ولكنني أنصحك بألا تقوم بأي حركة لأنني لن أتردد في قتلك. أمامك خياران لا ثالث لهما. الأول هو أن تقبل بتعيينك سفيراً في الخارج وتترك البلد فوراً أو أنت وجميع أفراد عائلتك ستقتلون.

وهكذا وعلى طريقة أفلام المافيا قدم صدام للنايف عرضاً لا يستطيع رفضه، وعندما أعلن النايف قبوله العرض، حضنه صدام وأخذه بذراعه الى خارج القصر. وعلى الباب الخارجي للقصر، قال له صدام: هناك طائرة بانتظارك الآن في المطار عليك أن تتوجه إليها فوراً. لقد اخترنا لك سفارة المغرب. الجو هناك أفضل بكثير من حرارة صيف بغداد.

ربما كان الخوف ما زال يتملك النايف. وبكلمات متلعثمة، قال لصدام: ماذا عن عائلتي؟ عن ثيابي؟

كان صدام عمل لكل شيء حسابه، فقال: لا تهتم. لقد حضّرت كل شيء لك. عائلتك وثيابك بانتظارك الآن في المطار. الآن أنت وأنا سنترك القصر معاً بكل هدوء وكأن شيئاً لم يحدث. الحرس سيؤدون لك التحية وكأنك ما زلت في مركزك. سأسير الى جانبك ومسدسي موجه إليك وأنا مستعد لإطلاق رصاصاته. إذا تصرفت خطأ أو قلت أي شيء، اعتبر نفسك ميتاً.

وتوجه الاثنان نحو السيارة وأدى الحرس التحية وبقي النايف صامتاً. ثم توجها الى قاعدة الرشيد العسكرية ومن هناك الى المطار. انتظر صدام إقلاع الطائرة الخاصة الى أن غابت عن أنظاره في السماء قبل أن يعود أدراجه إلى مكتبه في المجلس الوطني. وفي السيارة تنهد صدام الصعداء وهو يقول لمرافقه صباح ميرزا: الحمد لله الثورة كلها لنا الآن.

حدث كل ذلك في 30 يوليو. وعلى هذا الأساس، فإن البعثيين كانوا يطلقون على الانقلاب اسم ثورة 17-30 يوليو. وعلى الرغم من تعيين صدام رسمياً نائبا لرئيس الجمهورية صدر في 9 نوفمبر 1969 بعد انتخابه نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، فإنه قد مارس صلاحيات هذه الوظيفة منذ اليوم الأول لنجاح الانقلاب. وقضى صدام الفترة بين 17 يوليو 1968 يوم نجاح الانقلاب، و9 نوفمبر 1969، في ترتيب شؤون بيته الداخلي وإزالة كل عقبة حقيقية أو محتملة من طريقه. ولهذا استأهل صدام لقب المتآمر الأول في العراق والحقيقة أنه كان يطرب لسماع اسمه مصحوباً بهذا اللقب، حيث عمل جاهداً في ما بعد في توسيعه الى المتآمر الأول في العالم العربي وربما كان يريد أن يكون عالمياً أيضاً.

عندما حطت طائرة النايف على أرض المطار في المغرب، خرج منها غاضباً ليعلن أن البعثيين خدعوه وغدروا به. غضب صدام. وعندما يغضب لن يكون هناك حلول وسط. كلّف فريقاً من المخابرات برصد تحركات النايف واصطياده في أي مكان في العالم وقد تمت عملية الاصطياد على مدخل فندق الانتركونتيننتال في لندن، وهرب القتلة ما عدا واحدا منهم ألقي القبض عليه وأودع السجن الانكليزي، وأقسم صدام على اخراجه مهما كلف الأمر.

... في ذلك الوقت تسلمت مارغريت تاتشر رئاسة الوزراء وبدأ صدام عملية غزل للندن هدفها اطلاق سراح القاتل، ليس حباً بالقاتل أو اهتماماً به، بل لإعطاء الانطباع لأعضاء جهاز مخابراته الجدد بأنه لن يتخلى عنهم في الصعوبات والشدائد. أرسل أولا طه ياسين رمضان الى لندن في زيارة رسمية لبناء أول جسر مع بريطانيا ثم تبعه وزير الخارجية طارق عزيز. على رأس لائحة مطالبهما كان الافراج عن قاتل النايف. عُرضت على البريطانيين خطة لتهريب القاتل من السجن بمعرفة المسؤولين البريطانيين طبعاً. رفضت تاتشر العرض باشمئزاز ذاكرة أن التحقيقات مع القاتل تثبت أن الأوامر أعطيت من صدام شخصياً لقتل النايف، وبالتالي فليس من عادات المملكة المتحدة المساومة على من يرتكب جريمة قتل على أراضيها.

في بغداد، عندما تبلغ صدام من طه ياسين رمضان وطارق عزيز موقف مارغريت تاتشر وبصورة خاصة اتهامها له بإعطاء أمر القتل شخصياً، خرج بنتيجة أن الخلاف بين بريطانيا وبين العراق الذي بدأ يطفو على السطح هو في حقيقته عملية انتقام شخصي بينه وبين تاتشر، وأن ليس هناك مجال للمساومة. وراح صدام يتصرف على أساس هذا الاعتبار في كل ما يتعلق بالعلاقات مع لندن التي وصلت إلى أكثر من طريق مسدود.

أخبرني طارق عزيز في حينه أن مارغريت تاتشر كانت مصممة وبعناد على أن الثمن الذي يرضيها هو تغيير النظام في العراق. وقال: العلاقات السيئة مع بريطانيا لها جذورها التاريخية. ان بحراً من الدماء والانتقام يفصل بيننا منذ عام 1920. لقد قتلوا منا ونحن نقتل منهم. الأجيال في العراق يمكن أن تنسى كل شيء ما عدا دماء أبنائها. ان الأمر يختلف مع الأميركيين، فليس بيننا لا دماء ولا انتقام، ومن السهولة التعامل معهم بعيداً عن مثل هذا العقد.

ربما كان طارق عزيز عندما قال لي هذا الكلام في منتصف الطريق نحو الالتقاء بالأميركيين والثابت اليوم أن عزيز قد أخطأ في رؤيته هذه. فالذي يفصل اليوم بين العراقيين والأميركيين ليس بحراً من الدماء بل محيط بأكمله.

لفرنسا «حق الأفضلية»

ينتقل الكاتب علي بلوط الى العلاقة الفرنسية-العراقية، حيث يتناول أسرار هذه العلاقة التي كان «صدام يعوِّل عليها كثيراً ويعتبرها الركن الأساسي في بناء قاعدة متينة في الغرب تدوم أجيالا وأجيال»، مشيرا الى ان صدام اعتمد لتحقيق ذلك على الارث الذي تركه الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول عندما وقف الى جانب العرب في حرب الأيام الستة. لذلك كان من الطبيعي أن يعتمد على الديغوليين الذين سيطروا على الساحة الفرنسية السياسية طيلة عقدين من الزمن.

«أصدر صدام تعليمات واضحة الى مختلف الدوائر العراقية بأن تمنح فرنسا حق الأفضلية في التعامل النفطي والاقتصادي والثقافي. كانت هذه التعليمات بمنزلة «كارت بلانش» في كل شيء ولكل شيء. باريس تطلب وبغداد تلبي. واعتمد صدام سياسة تقوية العلاقات الشخصية كأداة لتعميق العلاقات العامة. السفارة العراقية في باريس تعرف مثلاً تاريخ ميلاد الشخصيات الفرنسية التي تشكل الحلقة الضيقة في صناعة القرار الفرنسي. كذلك تعرف تواريخ ميلاد الزوجات والصديقات وحتى العشيقات. والهدايا الغالية كانت تقدم بهذه المناسبات بلا حساب. عقود من الماس والذهب، ومصوغات ومجوهرات تصنع خصيصاً لمثل هذه المناسبات. كان يشرف على هذه العملية برزان، شقيق صدام من أمه، عندما كان مديراً للمخابرات، يعاونه في ذلك السفير العراقي في باريس.

وأعطت هذه السياسة ثمارها بحيث فتحت باريس كل أبوابها لاستقبال أي عراقي ومعاملته وكأنه يعيش في بلده. بدأ صدام زحفه نحو العاصمة الفرنسية عندما قام بزيارته الرسمية الأولى والأخيرة لفرنسا في عام 1975. وقتها كان فاليري جيسكار ديستان قد انتخب رئيساً للجمهورية في العام السابق. كذلك تولى جاك شيراك رئاسة الوزراء بالإضافة إلى مركزه الأصلي كمحافظ لباريس. لقد رافقت صدام في هذه الزيارة مع مجموعة من الصحافيين العراقيين والعرب واللبنانيين. وفي زيارته لمركز المفاعل النووي في الجنوب قدمني صدام الى شيراك على أنني صديقه الشخصي. وقد نتج عن هذه الزيارة توقيع اتفاق مبدئي على أن تزود فرنسا العراق بمفاعل نووي، بالاضافة الى صفقة سلاح حديثة بلغ ثمنها عدة مئات من ملايين الدولارات. وازدادت إثر ذلك العلاقة متانة وصلابة ونفذت فرنسا تعهداتها في المباشرة ببناء مفاعل اوزيراك النووي على الرغم من اعتراض واحتجاج الولايات المتحدة، بالاضافة الى بناء قطع من الاسطول البحري وتزويد الجيش العراقي بأحدث ما انتجته الصناعة الحربية الفرنسية».

تحذير باريس... وإهمال صدام

كان شهر العسل الفرنسي العراقي في ذروته عام 1981، عندما اتصل مدير مكتب الرئيس ديستان بالسفير العراقي في باريس آنذاك نوري الويس. قال مدير مكتب الرئيس الفرنسي للسفير العراقي: الرئيس يريد أن يجتمع بوزير خارجيتكم طارق عزيز في أسرع وقت ممكن لبحث موضوع في غاية الأهمية والخطورة. ومن الأفضل أن يحدث ذلك خلال الـ 24 ساعة المقبلة. الرجاء ابلاغي تأكيد هذا الموعد خلال الساعتين المقبلتين.

قال لي الويس في ما بعد: حاولت أن أعرف ماهية الموضوع المهم قبل أن أتصل ببغداد، كل ما عرفته أن مدير مكتب ديستان، الذي تربطني به علاقة خاصة لا يعرف هو شخصياً أي شيء عن الموضوع. وقام السفير بواجبه في ابلاغ طارق عزيز الرسالة مع التأكيد أنه لم يستطع معرفة الأسباب. بعد ساعتين، اتصل عزيز بالسفير وأبلغه أنه سيصل الى باريس في اليوم التالي.

وصل عزيز الى العاصمة الفرنسية بعد ظهر اليوم التالي ونزل في فندق كريون. وفي الساعة السابعة مساء توجه الى مقابلة الرئيس ديستان في قصر الأليزيه بناء على الموعد الذي حدد له... دخل عزيز والسفير الى مدير مكتب ديستان أولاً، كما تقتضي الأصول، وهناك فوجئ السفير بأن الرئيس الفرنسي يرغب في أن يكون اللقاء مع عزيز منفرداً. وجرى اللقاء المغلق بين الرجلين الذي دام نحو 35 دقيقة.

استناداً الى تقرير كتبه طارق عزيز ورفعه الى صدام عن هذا الاجتماع، وكان لي حظ قراءته، فإن المحادثة جرت على الشكل التالي:

•ديستان: لقد طلبت مقابلتكم على عجل لموضوع حساس وخطير بالنسبة الى بلدينا. قبل أن أدخل في التفاصيل أود أن أذكر أن ما سأقوله الآن هو لعينيّ وأذنيّ الرئيس صدام فقط لا غير. ولا أريد أي شخص آخر أن يطلع عليه سوى أنت والرئيس، وأؤكد لك أن أحداً في فرنسا لم يعرفه ولن يعرفه. تلقينا معلومات مؤكدة أنه خلال الخمسة أو العشرة أيام القادمة ستهاجمكم اسرائيل جواً لتدمير المفاعل النووي. وهذا ما دفعني الى الاتيان بك على عجل الى باريس حتى أتمكن من تحذيركم. الأميركيون وافقوا على الخطة الإسرائيلية وبالأمس تل أبيب استلمت موافقة واشنطن والعملية قيد التنفيذ.

•عزيز: باسم الرئيس وباسمي وباسم الشعب العراقي وباسم كل العرب نشكركم من صميم القلب على هذا التحذير. ان الموضوع كما قلتم حساس جداً وخطير جداً وربما يؤدي الى حرب جديدة في المنطقة.

•ديستان: من اجل هذا السبب طلبت مجيئكم لنحاول معاً تلافي حرب جديدة.

•عزيز: سيدي الرئيس ماذا باستطاعة فرنسا أن تفعل لوقف هذا الجنون؟ عليكم أن تفعلوا شيئاً.

•ديستان: لقد فكرت كثيراً حول ما يمكن ان تفعله فرنسا لوقف هذه العملية. للأسف وصلت الى خلاصة واحدة وهي أن فرنسا لا تستطيع أن تفعل شيئاً. الآن أجد نفسي في خطر سياسي هائل بابلاغكم هذا التحذير، ولهذا السبب طلبت ان اراك منفرداً. أتمنى أن تتفهم موقفي كما أتمنى ان تتعامل مع موضوع مقابلتنا بإطار شديد من السرية الكاملة.

•عزيز: سيدي الرئيس لدي اقتراح. ماذا لو أعلنت فرنسا بشكل أو بآخر أن اسرائيل تخطط لضرب المفاعل. أن هذا الاعلان يمكن أن يعطي إسرائيل اشارة بأن خطتها أصبحت مكشوفة، مما قد يؤدي الى إلغاء العملية أو على الأقل تأجيلها.

•ديستان: أنا آسف جداً لكننا لا نستطيع أن نفعل ذلك لأننا اذا فعلنا، فإننا نضع مصادرنا الخاصة في واشنطن وفي تل أبيب في خطر كبير.

•عزيز: أفهم ذلك سيدي الرئيس. لدي اقتراح آخر. ماذا لو ان العراق سرّب معلومات عن الضربة المرتقبة، وبعد ذلك تقوم فرنسا بتأكيد هذه المعلومات رسمياً، بهذه الطريقة فإننا نتلافى وضع مصادركم الخاصة في الخطر الذي تحدثتم عنه.

•ديستان: مجدداً آسف. إذا فعلنا ذلك نظهر بمظهر الحمقى. لا واشنطن ولا تل أبيب ولا أي شخص آخر سيصدق هذا السيناريو. بل من المؤكد أننا اذا فعلنا ذلك فإننا نضع مصادرنا في اطار الخطر السريع. آسف.

•عزيز: عندي اقتراح آخر سيدي الرئيس. ماذا لو اتصلتم بالرئيس (الأميركي دونالد) ريغن وبحثتم معه الموضوع بشكل خاص وسري، ومن زاوية ان اسرائيل اذا اقدمت على ذلك فهذا يعني وضع المنطقة كلها في حرب جديدة، وباستطاعتكم أن تطلبوا من الرئيس ريغن الضغط على اسرائيل لإلغاء الضربة. سيدي الرئيس ما أحاول ان أقوله هو أن ذلك قد لا يمنع اسرائيل من تحقيق خطوتها كما قلتم، خاصة أن تل أبيب حصلت على موافقة واشنطن، ولكن قد يؤدي ذلك الى تأجيلها. والتأجيل يعطينا مزيداً من الوقت لاتخاذ الخطوات اللازمة لحماية المفاعل من التدمير. أو على الأقل يمنحنا الوقت لنقل ما يمكن نقله من قطع المفاعل الى مكان آمن.

•ديستان: أن دافعي في تحذيركم ينبع من قناعتي العميقة بصداقتنا. انطلاقاً من هذا الإحساس أقول الآن وبكل صراحة حدود ما نستطيع أن نفعله. وليس هناك ضرورة لأخذ مزيد من الوقت في المناقشة. ان حدود ما يمكن ان نفعله، ونحن نتعهد لكم به الآن هو أن اسرائيل في حال القيام بعمليتها، ونحن واثقون أنها ستفعل، فسنقوم ببناء مفاعل جديد لكم. هذا كل ما نستطيع أن نفعله.

صباح اليوم التالي، غادر عزيز الى بغداد من دون ان يعطي أي اشارة لسفيره عن فحوى المقابلة، كما انه لم يرسل رسالة بالمحتوى الى بغداد، وذلك تنفيذاً لرغبة ديستان في ابقاء الموضوع في اطار السرية الكاملة، ما عدا عيني وأذني صدام حسين. ولأن طارق عزيز يفضل العينين على الاذنين لذلك انكب على كتابة هذا التقرير وهو في طائرة العودة الى بغداد. وطبقا لما ذكره عزيز لي في ما بعد، فإنه توجه رأساً من المطار الى القصر الجمهوري، حيث وضع أوراق تقريره على مكتب صدام ولم يكن في المكتب سوى عبد حمود السكرتير الشخصي لصدام، لذلك وحرصاً منه على السير في طريق السرية الى نهايتها، فإنه وضع التقرير أمام صدام ثم انحنى وهمس في أذنه طالباً منه أن يقرأ من دون تعليق.

بعد أن قرأ صدام ما ورد في التقرير قال بشيء من الغضب: إن الفرنسيين يحاولون ابتزازنا. انهم أشد قذارة من الأميركيين.

وهكذا فإن صدام قرأ خطأ تحذير جيكار ديستان، ولهذا لم يتخذ أي خطوات عملية لصدّ الهجوم الموعود على المفاعل النووي أوزيراك. لو أن صدام أخذ بشكل جدي تحذير ديستان لكان باستطاعته أن يضع على الأقل بعض العراقيل في وجه الخطة الإسرائيلية، أو أن يحرك دفاعاته الجوية في محاولة لخفض كمية التدمير في المفاعل.

لم يفعل صدام لا هذا ولا ذاك، مما أعطى الاسرائيليين يدا حرة في تدمير المفاعل.

وهذا ما حصل، ففي الساعة 15.55 من يوم السابع من يونيو عام 1981، بعد نحو اسبوعين من لقاء ديستان وعزيز، اخترقت طائرات اسرائيلية من نوع F15 وF16 الأجواء العراقية، حيث وصلت الى مركز الطويحة النووي بالقرب من بغداد بعد أن قطعت مسافة 1100 كلم وألقت قنابلها على المركز ودمرته بالكامل في دقيقة و20 ثانية.

لماذا لم يقدم صدام على فعل أي شيء بعد التحذير الفرنسي؟

الجواب ذهب مع الرئيس العراقي السابق الى قبره».

back to top