Ad

إنّ العجائب التي تضمّنها كتاب «حديث الشّيطان» تبدو فريدة ومثيرة ومؤلمة، لكنّ أكثرها تفرّداً وإثارة وإيلاماً، هي عجيبة شيطاننا الأوغندي «عيدي أمين»، لأنها كانت، في الوقت نفسه، مثيرة للضحك إلى أبعد حد، ممّا يقضي بأن تفرد لها وحدها مساحة خاصّة تليق بعمق وضخامة المصيبة.

ظل الصحافي الإيطالي «ريكاردو أوريزيو» لأعوام عديدة، يحمل في محفظته قصاصتين عتيقتين مصفرّتين، لم يملك الشجاعة على التخلص منهما، على الرغم من تصميمه التام على ذلك، وحين كانت محظفته تتهرّأ كان ينقلهما إلى محفظة جديدة.

وكان أوريزيو قد عثر على هاتين القصاصتين بينما كان يقلّب بعض الصحف الأجنبية، في غرفة الأخبار في الصحيفة التي عمل مراسلاً لها في مدينة ميلانو.

القاسم المشترك بين القصاصتين المأخوذتين من صحيفة الغارديان اللندنية، هو أنّهما تشيران إلى طاغيتين أفريقيين متهمين بأكل لحوم البشر، الأول عاد إلى وطنه، بعد فراره منه بزمن طويل، وأعلن أنه قدّيس، والثاني فرّ من بلاده ولم يعد إليها حتى وفاته، لكنّه اشتهر بأنه كان في «رحلة حج مديدة»!

كانت القصاصة الأولى تشير إلى «بيدل بوكاسا» إمبراطور أفريقيا الوسطى، بينما كانت الثانية تشير إلى «عيدي أمين» رئيس أوغندا، الذي زهد في رتبة الإمبراطور واكتفى بأن يكون «آخر ملوك إسكوتلندا»!

وقد قدر لهاتين القصاصتين أن تكونا خميرة لمشروع غير مسبوق، إذ دفعتا أوريزيو إلى إجراء مقابلات مع عدد من الطغاة السابقين أو مع شركائهم والمقرّبين منهم، فكانت الثمرة كتاباً فريداً عنوانه «حديث الشيطان» صدرت طبعته العربية عن دار بترا، بترجمة عهد علي ديب.

تضمّن الكتاب لقاءات مع، أو حول: عيدي أمين–أوغندا، بوكاسا-أفريقيا الوسطى، ياروزلسكي -بولندا، أنور خوجا-ألبانيا، دوفالييه-هاييتي، منغيستو هيلاميريام-أثيوبيا، ميلوسوفيتش-يوغسلافيا.

أما الجنرال «مانويل أنطونيو نورييغا» دكتاتور بنما الشهير، المقيم في سجنه الأميركي، فقد رفض أن يقابل المؤلف.

وكان أوريزيو، في رسالته للجنرال، قد أبلغه أنه بصدد تأليف كتاب عن «أشخاص منسيين» ممّن كانوا ذات يوم في موقع السلطة، وتسببوا بمشاكل عانتها بلدانهم. وفي ردّه الذي تضمّن رفضه إجراء مقابلة معه قال نورييغا: «إنني لا أعتبر نفسي شخصاً منسياً، لأن الله، الخالق العظيم الذي خلق الكون، الله الذي يقرر مصائر الناس –وإن يكن بصورة غير عادلة أحياناً- لم يقُل كلمته الأخيرة بشأن مانويل نورييغا».

ها هو ذا طاغية كان يتاجر بالمخدرات، تحت نظر وسمع المخابرات المركزية التي صنعته، وكان والغاً في دماء أبناء شعبه من دون رحمة، لكنه ما إن هوى من عليائه بأيدي صانعيه، حتّى تحوّل إلى قديس يستحضر ربه في كل جملة! ولنا أن نلاحظ كيف أنّه تذكّر بعد السقوط أن الله هو خالق الكون العظيم، وأن الله هو الذي يقرر المصائر «وليس الطغاة أمثاله»... لكن من حسن حظّ الحقيقة أن الطبع يغلب التطبّع دائماً، فها هو برغم تقواه، ينزلق إلى اتّهام الله بأن تقريره للمصائر ليس عادلاً أحياناً! وعن سبب اقتصار كتابه على هؤلاء السبعة من دون غيرهم، يشير أوريزيو إلى أنه اختار، عن عمد، أولئك الطغاة الذين سقطوا من السلطة إلى الخزي، إذ لا ينزع أولئك الذين يسقطعون واقفين لأن يتفحّصوا ضمائرهم. فقد بقي «أوغستو بينوشيه» رجلاً ذا سلطة يحترمه العديد من الناس في تشيلي، كذلك خلغ «سوهارتو» من الحكم في أندونيسيا، غير أن ثروته «المسروقة من دم الشعب طبعا» قد ظلت تحميه، وعلى الرغم من اتهام «أميلدا ماركوس» بالفساد، فإنها عادت إلى مانيلا لتجمع كمية ضخمة أخرى من الأحذية الثمينة، أما «ألفريدو ستروسنر» الطاغية المثالي الذي طرد من باراغواي عام 1989، فقد ضمنت له البرازيل جنة آمنة في ربوعها دائماً.

ويضيف أن طغاة كتابه يفتقدون عزاء الثروة، وإذا عاشوا في بحبوبة، فإنهم يفتقدون عزاء الحصانة. فمن بين أكلة لحوم البشر، نرى أن بوكاسا مات فقيراً، بينما كان أكثر الأشياء قرباً من حياة الرخاء بالنسبة لعيدي أمين، هو اشتراك في صالة رياضيّة في أحد فنادق جدّة!

وكذلك الحال بالنسبة لأكلة أرواح البشر: فقد ظلّ جان كلود دوفالييه، مثلاً، يعاني الفقر لفترة من الزمن، بحيث لم يستطع دفع فواتيره المنزلية، كما قضت «نيكسمي» زوجة أنور خوجا مدّة في السجن، ثم عاشت بعد الإفراج عنها حياة متواضعة جداً.

يقول أوريزيو: إنّ هؤلاء الطغاة الساقطين إلى الخزي يبدون وكأنهم ليسوا السبب في جميع المصائب التي حلّت ببلدانهم، وإنّما في بعضها فقط، وفي أحيان أخرى يرون أنهم غير مسؤولين حتى عن هذا البعض من المصائب، بل يمضون إلى حد القول إنهم كانوا منقذين لأوطانهم وشعوبهم!

ويخلص إلى أنّ هذه الفكرة تلازم جميع الطغاة السابقين، مختتماً بأنه ليس في وارد الحكم على كون هذه الفكرة صحيحة أم لا، ولا في موضع التساؤل عما إذا كان بمقدورنا أن نسامحهم. بل إن كل ما يسعنا القيام به هو أن «ندرسهم» عسى أن يساعدنا ذلك على الوصول إلى فهم أكبر لأنفسنا!

إن هذه النقطة المهمة التي ختم بها أوريزيو مقدمة كتابه هي نفسها التي انتهت إليها الروائية التشيلية الفذّة «إيزابيل أللندي» في مقابلة تلفزيونية أجريت معها أخيراً.

فعند عودتها إلى بلادها، عقب وفاة الطاغية «بينوشيه»، قالت إنها، بعد ثلاثين عاماً من الغياب، كانت تتأمل وجوه الناس في شوارع بلادها، فتراهم أشخاصاً عاديين وطبيعيين، فتدهش حين تستذكرهم في أيام الطاغية وقد تحولوا إلى وحوش مفترسة!

تم تتوقّف عن وصف تلك الأيام لتقول: يبدو أن الطغيان موجود في داخل كلّ واحد منّا!

والنقطة المهمة الأخرى التي استخلصها أوريزيو في أثناء عمله على مشروعه، تتعلّق بإحدى النتائج المريعة التي يخلّفها الطغيان بعد زواله، والتي يحدّدها بقوله: أحيانا يكون عزاء هؤلاء الطغاة معرفتهم بأن البلدان التي أرغموا على الهروب منها، قد أمست أسوأ ممّا كانت عليه عندما كانوا في الحكم!

وتلك النتيجة المؤسفة «التي نراها تتكرّر أمامنا» هي وحدها كبرى جرائم الدكتاتورية، وهي وحدها كافية لأن تفرض على العدالة واجب أن يكون أدنى قراراتها: قتل الطاغية آلاف المرّات!

إنّ العجائب التي تضمّنها كتاب «حديث الشّيطان» تبدو فريدة ومثيرة ومؤلمة، لكنّ أكثرها تفرّداً وإثارة وإيلاماً، هي عجيبة شيطاننا الأوغندي «عيدي أمين»، لأنها كانت، في الوقت نفسه، مثيرة للضحك إلى أبعد حد، ممّا يقضي بأن تفرد لها وحدها مساحة خاصّة تليق بعمق وضخامة المصيبة.

* شاعر عراقي