يعزو البعض سبب كراهية العرب للعولمة إلى الموقف من الغرب، فهم حتى الآن من أكثر شعوب ودول العالم الثالث الذين يقفون «عائقاً» أمام العولمة، ولعلّ هذا السبب هو الذي يدفع الأوساط الحاكمة والنخب المتنفذة في الغرب، إلى اعتبار العنف والإرهاب ماركة عربية مسجلة بامتياز!! ولكن هل للإرهاب وطن أو قومية أو لغة أو دين أو هوية لكي يدمغ العرب به من دون سواهم من الأمم؟ وهل هو حكر عليهم وحدهم أم هم كانوا من ضحاياه تاريخياً، خصوصاً في التاريخ الحديث والمعاصر، حيث تعرّضت بلدانهم إلى الهيمنة الكولونيالية وإلى تقسيمها بموجب معاهدات دولية جائرة لاسيما معاهدة سايكس-بيكو عشية الحرب العالمية الأولى، وإلى نهب ثرواتها وإلى تعريضها لعدوان مستمر منذ ستة عقود من الزمان؟!

Ad

وهناك من يعتقد أن الموقف السلبي للعرب من العولمة يعود إلى أنظمتهم الاستبدادية الشمولية أو المحافظة والتقليدية، وبالتالي سياقاتهم اللاديموقراطية، التي تحول دون قبولهم شروط العولمة وقوانينها وآلياتها، لكن مثل هذا الأمر، وإن كان صحيحاً في ما يتعلق بالموقف من الديموقراطية ومبادئ الدولة العصرية، لا يختص به العرب وحدهم، فهناك الكثير من بلدان العالم الثالث مازالت تعاني مظاهر الاستبداد والأنظمة السلطوية، بل إن بلداناً مثل الصين و روسيا و البرازيل استفادت من حسنات العولمة في مجالات مختلفة، وإن كانت لا تعتبر ديموقراطية بالمعنى الليبرالي الذي يريده الغرب، فلماذا ينفرد العرب في مساوئ العولمة في حين تحاول بعض البلدان والشعوب الاستفادة من حسناتها؟!

لعل سبب عدم اندماج العرب طواعية أو حتى بالإكراه في العولمة والاستفادة من إيجابياتها غير القليلة بما فيها عولمة المنجزات العلمية-التكنوترونية وعولمة الثقافة وحقوق الإنسان، من دون أن يعني غض الطرف عن سلبياتها الكثيرة، بل وجهها اللاإنساني المتوحش كما يوصف أحياناً، يعود إلى غياب إرادة سياسية موحدة وطبقة سياسية فاعلة ومتوافقة، تضع ضمن خططها وبرامجها مشروع التحديث والتمدين من خلال الاستفادة الرشيدة من الموارد الطبيعية الهائلة والطاقات البشرية الكبيرة ونتائج الثورة العلمية التقنية، لتنمية بلدانها.

خمس مفارقات رئيسة أفرزتها العولمة، الأولى تتعلق بفكرة السيادة الوطنية التي انحسرت إلى أبعد الحدود بفعل «عولمة» التدخل لأغراض إنسانية أو غير إنسانية أو توظيفه لمصلحة القوى المتنفّذة والمتسيّدة في العلاقات الدولية، فلم تعد فكرة السيادة مطلقة رغم أن الدول وافقت على التنازل عن جزء من سيادتها في إطار القانون الدولي النافذ والمعاصر، فإن العولمة تخطّت الحدود على نحو شديد.

فلم يعد بإمكان الدولة التصرف بأمورها الداخلية على هواها، ومن دون مراعاة لقوانين وشروط العولمة التي فرضت رقابة و«حقاً» للتدخل تحت مبررات مختلفة، بينما إذا انفردت سلطة ما بشؤون شعبها بالضد من القواعد العامة لما يسمى بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وفي ذلك سعت الدول المهيمنة على العلاقات الدولية إلى إضعاف سلطات الدول وسيادتها حتى إن أدّى ذلك إلى تفكيكها بمبررات حماية الحقوق والحريات التي لم تكن واردة في حساباتها حين أسهمت في حماية أنظمة تنتهكها على نحو صارخ، ولعلّ انكسار رياح التغيير عند شواطئ البحر المتوسط في أواخر الثمانينات لم يكن بمعزل عن المصالح الدولية للقوى المهيمنة.

المفارقة الثانية هي الدور الكبير والمتعاظم للشركات التجارية العملاقة، حيث أسهمت العولمة في إخضاع الدول وسيادتها إلى متطلبات هذه الشركات والمؤسسات الاقتصادية الدولية العملاقة والقطاع الخاص لحساب القوى المتنفذة من جهة، ومن جهة ثانية أصبحت الدولة «أقوى نفوذاً وهيمنة» على مواطنيها بفعل ما قدمته العولمة من أدوات ووسائل اتصالات ومواصلات وتكنولوجيا للأجهزة الأمنية والمخابراتية الداخلية، في حين أن «الدولة» خصوصاً «العالمثالثية» خضعت للاستتباع الخارجي بفعل العولمة. هكذا أصبحت الشركات العملاقة تدير أكثر من نصف حجم التجارة الخارجية العالمية، بعد أن كانت تديرها الدول الكبرى أو التجارة الدولية كما تسمى، الأمر الذي دفع بعض الحكومات إلى تأسيس شركات عابرة للقارات وما فوق قومية للتجارة نيابة عنها.

المفارقة الثالثة هي ما أفرزته العولمة من التباس وتناقض في مفهوم الهوية، الذي أثار ارتباكاً شديداً خصوصاً بين التماسك والتآكل وبين القدرة على تحصين الدول لنفسها ومجتمعاتها والحفاظ على هويتها وخصوصيتها بوجه ضغط العولمة وغزوها، وبين الانحلال والتآكل والتمزق بفعل عدم القدرة في مجابهة العولمة أو الاضطرار إلى الانخراط فيها والخضوع لشروطها ومتطلباتها!!

لكن التكامل والاندماج أو التقارب والاتحاد على الصعيد الأوروبي على سبيل المثال واجهه ميل إلى الانفراط والتشظي على مستوى الدولة والمجتمع وبتشجيع من القوى المتنفذة على المستوى الدولي، لاسيما في الدول التي خرجت من معطف الاستبداد والدكتاتورية مثل ما حصل في الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وغيرها، وكذلك ما يجري في العالم العربي من رهان للتقسيم والتفتيت وليس بمعزل عن العولمة.

المفارقة الرابعة أن الحديث عن العولمة في مرحلتها الأولى كان جوهره يتضمن نزع الآيديولوجيا، ولذلك راجت فكرة ذبول أو نهاية عهد الآيديولوجيا التي ينبغي أن تتقدم عليها التجارة والثروة والتكنولوجيا، وشملت تلك المنظومة من الأفكار الدعوة إلى إضعاف العقائد الدينية مقابل العقائد الدنيوية التي هي في جوهرها إعلان الانحياز إلى نظام وحيد في العالم هو النظام الليبرالي الرأسمالي الذي ظفر بالفوز في المعركة ضد الشيوعية والاشتراكية والعقائد القومية والوطنية، وهو ما نظّر له فرانسيس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ» وصموئيل هنتنغتون في كتابه «صِدام الحضارات»، مبشّرين بعصر أميركي أساسه منظومة قيمية واحدة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، لكن أحداث 11 سبتمبر 2001 الإجرامية الإرهابية دعت الولايات المتحدة والاتجاهات اليمينية المتطرّفة إلى استحضار العقيدة الدينية الإنجليكية مجدداً للتبشير بحرب صليبية «اقرأ: حرب الفرنجة» التي لم تكن زلة لسان، بل هي جزء من ترسانة فكرية متكاملة لاسيما بوصف الرئيس جورج دبليو بوش الإسلام بالفاشية خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان في يوليو 2006.

المفارقة الخامسة أن العولمة ورغم ما رافقها من صخب كبير لم يكن لها علاقة بالديموقراطية، فقد ظلّت الأخيرة وعداً غير حامل لبرهان، ولم يحل ربيعها أو يسود نعيم الحرية في رحاب العولمة، فالعولمة لا تقترن بالديموقراطية وليست أحد شروطها، وفي الوقت الذي تواصل العولمة مسيرتها تتراجع الديموقراطية وتشهد انحساراً حتى في بلدان المنبع «أوروبا والولايات المتحدة» بفعل القوانين والقرارات والإجراءات التي ضيّقت على الحريات المدنية لاسيما للجاليات الأجنبية خصوصاً من أصول عربية أو مسلمة.

* كاتب ومفكر عربي