الدين كحق من حقوق الإنسان
لا نرى كيف يمكن أن يبقى الإسلام دينا عالمياً، خصوصاً في زمن العولمة، وأن يرفض مبدأ الحرية الدينية، أي الانخراط بالفعل في العالم والاختلاط به؟
حرية الاعتقاد الديني، وفي قلبها، حرية عدم الإيمان وحرية تغيير الإيمان، مبدأ مؤسس للدين بالذات. وليس الإيمان ذاته غير وجه مخصوص من وجوه الحرية هذه، أو ما يمكن أن نسميه «الحق في الإيمان» أو الحق في دين معين. من حق المسلمين في الغرب أن يؤمنوا بدينهم وبما يعتقدون أنها أركان إيمانهم به، وليس هذا مشروطاً إلا بفكرة الحق ذاتها: الحق في عدم الإيمان، والحق في تغيير الإيمان. ليس هذا شرطاً خارجياً، ولا هو مجرد شرط ينبثق من تعريف الحق ذاته، بل إنه ينبثق من مفهوم الإيمان أولاً. فالإيمان فعل طوعي حر، وهو لا يدرُّ أمنا وسلاماً وطمأنينة، و«إسلاما»، إلا إن كان كذلك. لا نماري في أن تصور الإيمان كحق ينتسب إلى الحداثة المتمركزة حول الإنسان، والتي تجعل منه ذاتاً حرة ومركزاً لحقوق لصيقة به كإنسان، لكن إذا رفض مؤمنون مسلمون اعتبار الإيمان الديني حقاً من حقوق الإنسان، كيف يسعهم في هذه الحلة التفاهم مع العالم المعاصر والدفاع عن حقوقهم فيه؟ وإذا أنكرنا عالمية الحق، هل يبقى لنا من خيار غير تغيير العالم ليتشكل على صورتنا ومثالنا (على النحو الهاذي الذي يميز «تفكير» منظمة القاعدة)؟ أما الانعزال عن عالم متشكل وفقاً للحداثة فممتنع بكل بساطة. وأما الجمع بين انخراط مادي وانعزال معنوي فهو مصدر للبؤس والشلل لا للنهوض والقوة. هذا فوق أن رفض عالمية الحق، وليس إقرارها، هو ما يسوغ أشكال العدوان والسيطرة والعنصرية، ومنها بالخصوص إسرائيل. بلى، إن تأسيس الدين على حرية الاعتقاد الديني كحق للإنسان يعني أن أساس شرعية الإيمان هو انضباطه بمبدأ الحرية الدينية. بيد أن المبدأ هذا غير ممتنع على التوافق مع الإسلام كدين عالمي، يسكن معتنقوه في كل مكان من «البسيطة» التي تزداد بساطة على مستوى المحسوس («العالم قرية صغيرة»...)، وتعقيداً هائلاً على مستوى المعقول، ويساكنهم هذا العالم الصغير المعقد حيثما كانوا، ويعرض لهم نماذج للتفكير والسلوك والحساسية والدين مختلفة عما ألفوا. والحداثة هي هذا، تصاغر العالم المحسوس واتساع العالم المعقول، أي العالم الذي صنعه الإنسان. وفي طورها الراهن، العولمة، هي اختلاط هائل ومعقد، يعصف بالدول القومية حتى في المراكز المتقدمة وبمبدأ سيادة الدولة والخصوصية الثقافية وتمايز الهويات (وقد لا يكون الانشغال العالمي الراهن بقضايا الهوية غير عرض لزلزلة العولمة...). واختلاطنا بالعالم وممازجته لنا تجربة مرشحة للتواتر والتضاعف لا للندرة، واحتمال تحول مسلمين إلى غير الإسلام لم يعد نادراً (ولم يكن أبداً بالمناسبة، إن اطلعنا على طرف من تاريخ لبنان ومن تاريخ هجرة المسلمين إلى الغرب). وحتى لو اكتفينا بأمثلة التحول الأكثر جلبة فإنها تكفي للتدليل على أن حالات التحول الديني تسير في اتجاهين أو اتجاهات متعددة وليس فقط في اتجاه التحول إلى الإسلام، كما يفضل أن يعتقد التمركز الإسلامي حول الذات. إن ما يجري في الواقع من دون أن يستأذن أحدا، ومن دون أن يمكن منعه على افتراض أن المنع مرغوب (وكيف يمكنه أن يكون؟) لا يمكن تنظيمه على غير أساس حرية الاعتقاد الديني. بل لعل هذا المبدأ مرشح لاكتساب أهمية مستجدة كمنظم لوقائع التحول الديني، الأمر الذي قد يفصله عن أصوله الفلسفية. أعني أنه ربما يتحول إلى مبدأ من مبادئ العلاقات بين الدينية والثقافية بعد أن كان متأصلاً في فكرة الإنسان (بالتقابل مع الله) وحقوقه الأصيلة. أعني أيضا أن مبدأ الحرية الدينية يحتاج إلى إقرار جديد عبر نقاش ومفاوضات دينية عالمية، يتعين أن يسهم المعنيون بمستقبل الإسلام والمسلمين بنشاط وإيجابية فيها. ولا نرى كيف يمكن أن يبقى الإسلام دينا عالمياً، في زمن العولمة خصوصاً، أن يرفض مبدأ الحرية الدينية، أي الانخراط بالفعل في العالم والاختلاط به؟ وما لا يبدو أن القيمين المعاصرين على الإسلام يدركونه أن رفض الحرية الدينية سيجعل الإسلام ديناً قومياً أو طائفياً، أي نقيض ما يفترض أنهم يصبون إليه. إن إرساء الحياة الدينية العالمية على مبدأ حرية الاعتقاد الديني هو ما يمكن أن يقي المجال الإسلامي والعالم ككل من التعصب والفوضى الدينية والسياسية، من النوع الذي تمثل عليه أيامنا هذه بفضل متعصبين مثل أسامة بن لادن وجورج بوش ونظراء لهما أقل شاناً، لكنهم لا يكفون عن التكاثر. هذا المبدأ مدخل إلى العلمنة؟ بلا ريب. فالشرعية العليا سيحوزها مبدأ بشري تاريخي ينتظم الدين ارتكازاً عليه. إننا نعيش في عالم علماني، والإسلام ذاته يتشكل وفقا لمثال هذا العالم الدنيوي، لكن افتقارنا إلى وعي مطابق لهذا التشكل يمنعنا من ضبطه وتنظيمه، ويثير أشكالاً من التشويش والاضطراب والفوضى العقلية والسياسية. والواقع أن العلمانية ذاتها مرشحة للتغير في عالمنا المتغير هذا. وهي مدعوة إلى التأسيس على تجربة التهجين والاختلاط العالمي بدلاً من أي مبادئ فلسفية أو قانونية لا تتبدل. يستحيل أن نعلم ما ستكون حصيلة هذا التحول الذي ربما يناسب وصفه بـ«علمنة العلمانية»، بيد أن العملية هذه ربما تكون بالغة التعقيد في المجال الإسلامي. فالإسلام ينخرط في عالم مهجن، «مُعَلمن» إلى حد بعيد، بينما هو لايزال يحتفظ بمطامح سيادية وسياسية كبيرة. وهو ما قد يعني أن ندخل في جيل علماني عالمي جديد، من دون أن نحل شيئاً من مشكلات جيل سابق. لكن أليس هذا هو شأننا منذ ولجنا العالم الحديث قبل نحو قرنين؟ وهذا الشرط المحبط، ألا يعني أننا مدعوون إلى مقاربات ومعالجات أكثر أساسية، تمس ركائز عالمنا الثقافية والدينية والحضارية؟ لكن لنعد إلى قضيتنا الأولى. إن إرساء الدين على الحرية الدينية يعني أن الحرية الدينية قوّامة على التدين، وأن كل تدين أو إيمان سوف يسوغ نفسه بهذا المبدأ كي يحوز الشرعية. هذا تطور ربما ترسخه تجربة الاختلاط العالمية. وفوق أن من شأن هذا الإرساء أن يحيي وينشط البعد الروحي في التجربة الدينية الإسلامية، فإن مبدأ «لا إكراه في الدين» القرآني يزكيه تزكية كاملة.وخلافا لما يظن الإسلاميون، فإنه حيث لا حرية دينية لن تكون الحرية وحدها منقوصة، إنما الدين نفسه كذلك. * كاتب سوري