نهاية التنوير الأوروبي
لا يكاد يخلو تاريخ العالم من حضارة قائدة، كما كانت الصين والهند وفارس ومصر وكنعان وبابل وآشور قديما، ثم اليونان والرومان والعرب وأوروبا بعد ذلك. إن العالم الآن على مفترق الطرق بين «أفول الغرب» وبزوغ الشرق.
الآن، بدأ الغرب ينقلب على نفسه، ويقطع أنفه بيديه. يدمر ما بناه، ويهدم ما حارب من أجله. بدأ نقد العقل وتحطيمه لمصلحة اللامعقول والعبث والاشتباه باسم الوجود الإنساني أو تناقضات الحياة. فالعالم بلا نسق، والعقل لا يقدر على استيعابه أو ضبطه.
مُثُـل التنوير قيم إسلامية عرفها تراثنا القديم. فالعقل أساس النقل. ومن قدح في العقل فقد قدح في النقل. ويطالب القرآن بالبرهان وبإعمال العقل. والحرية قيمة إسلامية. فقد خلق الله الناس أحراراً. والتوحيد تحرير للوجدان الإنساني من كل صنوف القهر. والمساواة فضيلة إسلامية. فالناس سواسية كأسنان المشط. والإخاء مبدأ إسلامي. والنبي شاهد على أن عباد الله إخوان. والطبيعة آية من آيات الله، دليل على وجوده. وللناس فيها جمال حين يريحون وحين يسرحون. والتقدم سنّة الحياة وقانون التاريخ. وهو لفظ قرآني، لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر. وقصص الأنبياء دليل على ذلك. وقام العصر الليبرالي في النصف الأول من القرن العشرين على مُثل التنوير، خاصة العقل والحرية. وما أكثر جماعات «التنوير» الآن. بل تتبناه الدولة ضد الحركات الإسلامية المتهمة بالتخلف والأسطورة والخرافة والتعصب. وقامت النهضة العربية الأولى في القرن التاسع عشر على مُثـل التنوير التي روّج لها الطهطاوي بعد أن عرفها أثناء وجوده إماما للبعثة التعليمية في باريس خمس سنوات. ورآها تقوم على قاعدة الحسن والقبح العقليين عند المعتزلة القدماء وعلى قاعدة جلب المنافع ودفع المضار عند الأصوليين. فلا فرق بين الشريعة الإسلامية و «شرطة» نابليون، ولا بين «روح القوانين» عند مونتسكيو و «مقدمة ابن خلدون». فمونتسكيو هو ابن خلدون فرنسا. وابن خلدون هو مونتسكيو العرب. إن أعظم ما أنتجه الغرب من إبداع فكري، هو فلسفة «التنوير» أو «الأنوار»، التي بلغت الذروة في القرن الثامن عشر عند فلاسفة التنوير في فرنسا، فولتير وروسو ومونتسكيو وفلاسفة «دائرة المعارف الفلسفية» وكانط في ألمانيا. تسترجع عصر بركليس عند اليونان. وتقوم على أفكار العقل والحرية والمساواة والإخاء، والطبيعة والتقدم. وبفضلها قامت الثورة الفرنسية، والثورة الأميركية، وتجسدت في قوانينها، إعلان الاستقلال، والدستور، وتمثال الحرية، ونظام الحياة الأميركي. كما قامت الثورات الروسية العديدة ضد القيصر على مثل هذه الأفكار التي تبناها المناصرون للثقافة الفرنسية في روسيا. وحاول اليسار الهيجلي في ألمانيا القيام بنفس الثورة عام 1848، لكنها فشلت كثورة وبقيت كمثل عليا في الحرية والمساواة. والآن، بدأ الغرب ينقلب على نفسه، ويقطع أنفه بيديه. يدمر ما بناه، ويهدم ما حارب من أجله. بدأ نقد العقل وتحطيمه لمصلحة اللامعقول والعبث والاشتباه باسم الوجود الإنساني أو تناقضات الحياة. فالعالم بلا نسق، والعقل لا يقدر على استيعابه أو ضبطه. كما سادت الاتجاهات التسلطية ممثلة في الفاشية والنازية، والشمولية ممثلة في النظم الشيوعية التي قهرت الحريات الفردية باسم أمن النظام ومصلحة الجماعة، وظهر التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء نظرا لتراكم رأس المال من المستعمرات الخارجية ومن التصنيع الداخلي، واستغلال العمال والمهاجرين الأفارقة والآسيويين وفقراء أوروبا الشرقية. وعمت الفردية والأنانية ضد مبدأ المساواة بين البشر. وأصبح للفرد الأولوية على الجماعة، والأنانية على الغيرية، والأثرة على الإيثار. أما الطبيعة فقد تلوثت. وماتت الأسماك في الأنهار تحت شعار «الإنسان سيد الطبيعة». وأصبحت مادة صرفة لا حياة فيها، وليست دليلا على شيء. وانهار التقدم، وبدأ النكوص. وقاربت الحضارة الغربية في العصور الحديثة على الانتهاء بعد أن اكتملت الدورة التاريخية. وشاعت العدمية منذ أعلن نيتشه في نهاية القرن التاسع عشر «موت الإله» وحياة الإنسان. ثم أعلن بارت في منتصف القرن العشرين موت المؤلف، والكتابة في درجة الصفر. فلم يعد يحيا أحد وبدأ نقد الحداثة باسم ما بعد الحداثة. وتفتيت الرؤى الكلية للعالم باسم التفكيك. وغابت القيم المطلقة لمصلحة النسبية والشك. وتحدث الفلاسفة عن أزمة الضمير الأوروبي، عند هوسرل فقدان الإحساس بالحياة، وعند ماكس شيلر قلب القيم، وعند برجسون تحويل الآلة إلى إله، وعند اشبنجلر «أفول الغرب». وتكشفت أزمة الحضارة الغربية، وتفسخ مشروعها، أكبر كم ممكن من الإنتاج، لأكبر قدر ممكن من الاستهلاك لأكبر قسط ممكن من السعادة. تعثر الإنتاج بسبب أزمة الطاقة، وسيادة الشعوب على المواد الأولية. وتأزم الاستهلاك نظرا لوجود مراكز صناعية أخرى في آسيا، خاصة الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ. وزاد معدل الانتحار في أكثر الدول الأوروبية تقدما، وهي البلدان الشمالية. وثار الشباب في مايو 1968 رافضين مادية الغرب واستغلاله وكذبه ونفاقه وتسلطه. وانتشرت الثقافات المضادة، ثقافة الشباب والمرأة وجماعات المعارضة. وصعد اليمين الأوروبي، وعادت النازية الجديدة. وانتشرت النزعات العرقية والطائفية. وبان العداء للمهاجرين، ووصفت ثقافات الشعوب اللاأوروبية مثل الإسلام بالإرهاب والعنف وخرق حقوق الإنسان والمرأة والطفل والشيخ، والتسلط والطغيان. وكان آخرها الرسوم الساخرة من الرسول الكريم باسم حرية التعبير المطلقة دون مسؤولية أو احترام حريات الآخرين. وعاد إلى أوروبا عنفوانها الاستعماري في موجة ثانية من الهيمنة باسم العولمة أو صراع الحضارات أو نهاية التاريخ اعتماداً على القوة العسكرية حتى تقضي على ما تبقى من حركات التحرر الوطني، وهي الدولة الوطنية المستقلة بعد أن وقعت في التبعية للخارج والفساد والقهر في الداخل. وظهر ذلك في العدوان العسكري المباشر على الشعوب المستقلة، العدوان الصهيوني على كل فلسطين، والعدوان الأميركي على العراق وأفغانستان، والعدوان الروسي على الشيشان دون مراعاة لميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على احترام استقلال الشعوب، وعدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة. بل إن أوروبا فقدت استقلالها بتبعيتها للولايات المتحدة. ولم تعد ميزان التعادل بين الشرق والغرب، وجسر الحوار بين الشمال والجنوب. وسادت المحافظة الجديدة الإدارة الأميركية، وتخلت عن أفكار الثورة الفرنسية التي تبناها المؤسسون الأوائل. وظهرت المسيحية الصهيونية التي تؤمن بظهور المخلص، دولة إسرائيل، من أجل تأسيس إسرائيل الكبرى، والإمبراطورية الأميركية التي عهد إليها الرب بإصلاح العالم، ونشر الديموقراطية والحرية في سائر ربوع العالم. وظهر المعيار المزدوج في المناداة بالديموقراطية ورفض نتائج الانتخابات الفلسطينية وفوز حماس، وتحريم تخصيب اليورانيوم على إيران، والسماح بأسلحة الدمار الشامل فى إسرائيل، وتأييد الهند فى سلاحها النووى والتخوف من سلاح باكستان أن يقع فى أيدي «الإرهابيين»، أي المعادين للولايات المتحدة وإسرائيل. وكما صرخ هوسرل في نهاية «أزمة العلوم الأوروبية»: خطر، أوروبا، خطر. عليك أن تختاري بين طريقين: إما أن تنتهي إلى العدم أو أن تبعثي نفسك من خلال الرماد. قد يكون الأمل في الحركات المعادية للولايات المتحدة الأميركية التي عمت العالم كله حتى داخل أميركا نفسها ضد العدوان الأميركي على الشعوب. قد يكون الأمل في عودة الحركات اليسارية الاشتراكية في أميركا اللاتينية المناهضة للاستعمار والهيمنة الأميركية. فجيفارا لم يمت بعد. قد يكون الأمل في صعود آسيا، الصين خاصة من أجل تحدي العالم الأحادي القطب. قد تستطيع إيران بلورة اتجاه دولي معاد للهيمنة الأميركية دفاعا عن استقلال الشعوب. قد تكون حركات التحرر الوطني الجديدة في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير ميلاد روح جديدة تغير مسار العالم. وكما انتقلت الحضارة من الشرق إلى الغرب فإنها قد تعود من جديد في اتجاه معاكس، من الغرب إلى الشرق. لا يكاد يخلو تاريخ العالم من حضارة قائدة كما كانت الصين والهند وفارس ومصر وكنعان وبابل وآشور قديما، ثم اليونان والرومان والعرب وأوروبا بعد ذلك. إن العالم الآن على مفترق الطرق بين «أفول الغرب» وبزوغ الشرق. كاتب ومفكر مصري