بيرغر سيلين... عبقرية شاعر توحّدي!
حين قرأت رواية الكاتب الأرجنتيني أرنستو ساباتو – Ernesto Sabato «ملاك الجحيم- أبدون»، أدركت معنى أن يكتب روائي رواية لافتة، لا تخضع للمألوف في جنس الرواية. وبعد أن عثرت على صورته الشخصية، جلست أمامها لفترة أتأملها، متسائلاً: ما الذي يميّز ساباتو، العبقرية الروائية المتفردة، عن باقي خلق الله؟ وكانت الإجابة: لا شيء. وحضرتني الإجابة نفسها، حين تمليت الصور الشخصية لعظماء الفكر والأدب. مما زادني اقتناعاً بأن الموهبة والعبقرية شيء إلهي يخص أفراداً بعينهم، ليكونوا مشاعل النور على دروب البشرية المظلمة، وأن ذلك لا علاقة له بجمال ملامحهم أو قوة أجسادهم.
ستيفن هوكنج – Stephen Hawking المولود عام 1942، بروفيسور الفيزياء في جامعة كيمبردج، وصاحب كتاب «موجز تاريخ الزمن»، الذي ينكب على دراسة علاقة الزمن بالفراغ، هو رجل مقعد وعاجز جسدياً عن الإتيان بأي حركة، أو النطق بأي حرف، لكنه يعدّ أحد أعظم وأشهر الفيزيائيين في العالم المعاصر، ولقد درج على مخاطبة الجمهور والإجابة عن أسئلته من خلال جهاز الكمبيوتر، والأمر ذاته في نبوغ العبقرية، تكرر بشكل آخر مع شاعر توحّدي ألماني هو بيرغر سيلين – Birger Sellin. ولد بيرغر سيلين في برلين عام 1973، في عامه الثاني توقف نموه العقلي، تلا ذلك انقطاعه عن الكلام، ورفضه لأي علاقة مع والديه. وفي سن الرابعة والنصف شخّص الطب إصابته بالتوحّد المبكر، وبما يعني الإعاقة الدائمة، ولقد عاش سيلين سنوات طفولته في مدرسة خاصة، منطوياً ومتوحّداً في عالم يحيطه الصمت، وتكبله الإعاقة، بينما ساءت حالته حين بلغ سن المراهقة، وصبّ جام ضيقه وغضبه على نفسه وجسده الهزيل. مع بلوغ سيلين سن السابعة عشرة، استمعت والدته إلى محاضرة عن «التواصل المبسط والمسند - Facilitated Communication»، الذي يعدّ بمنزلة الطريقة المثلى للتعامل مع المرضى المصابين بالتوحّد، وكان أن جلست الأم مع ولدها أمام شاشة الكمبيوتر على أمل التواصل معه، وبعد محاولات متعددة ومؤلمة للشاب وأمه، ظهرت على شاشة الكمبيوتر كلمات سيلين، فلقد كتب موضحاً بأنه يعرف القراءة والكتابة منذ سن الخامسة، وأنه التهم كلمات الكتب التي مرَّ عليها منذ صغره، وهكذا بدأ اكتشاف الأم لوعي وذكاء وثقافة ابنها المتوحّد، لكن اكتشافها الأهم، والمفاجأة الأجمل بالنسبة لها، جاءت لحظة أدركت أن سيلين يخبّئ بين جنباته إحساساً مرهفاً، ولغة طفولية ساحرة. وفي عام 1993 صدر كتاب بيرغر الأول بعنوان «لا أريد أن أكون شيئاً البتة في داخلي، رسائل من سجن توحّدي»، ولقد لفت الأنظار إليه، وأطلقت عليه الصحافة الألمانية وصف « أول شاعر توحّدي في العالم». الإعاقة الجسدية لم تكن في يوم من الأيام عائقاً أمام الإبداع والعطاء في مختلف مناحي الحياة، فموهبة المبدع ومشاعره وقدرته على التعبير عنها، لا تخضع لمقاييس الجسد وجماله وصحته واعتلاله، بل تخضع لإرادة إنسان يدرك تفرده في الحياة، ويعشق أن يكون له حضور فاعل ومؤثر فيها.