في مختلف ميادين الحياة وعلى مر التاريخ، هناك أسماء قليلة فرضت حضورها الإبداعي اللافت حد العبقرية، وتركت وراءها إرثاً إنسانياً متجدداً يجد معناه، ويحفر تأثيره في أجيال متلاحقة، وربما كانت تلك المجموعة من العباقرة هي مبدعة الفنون بصيغتها الأجمل ومعاييرها الصحيحة والرفيعة، وبالتأكيد يمكن النظر إلى حامل نوبل 1998، جوزيه ساراماغو كأحد هؤلاء.
ساراماغو المولود في البرتغال عام 1922، الذي أصدر روايته الأولى «أرض الخطيئة» عام 1947، مازال يكتب أدباً روائياً يمكن أن يشكل معياراً صحيحاً ودالّاً على عبقرية الرواية، ويمكن أن تقاس عليه فنية أعمال روائية على طول وعرض العالم، في زمن صارت فيه الرواية جنساً أدبياً رائجاً، وصار بعض كتابها أصحاب ثروات طائلة، بينما هم في مقياس النقد الفني على البعد من روح وفن الرواية، لكن ساراماغو، ومن بين قلة، يكتب أدباً كالبلور، دواوين شعر، وروايات تجسد الحياة الإنسانية، وتخلق من الفن حياة تبز الحياة الحقيقية، وتتفوق عليها بقدرة الفن على أن يكون أكثر جرأة وعدلاً وخيالاً. جوزيه ساراماغو في رواية «الآخر مثلي»، ترجمة دكتور بدر الدين عرودكي، إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الجوائز، يقدم نموذجاً لامعاً لما يجب أن يكون عليه فن كتابة الرواية، نموذجاً بمنزلة المنخل لغربلة الأعمال الروائية العالمية، بعيداً عن دعاية الأسماء، وبعيداً عن الأضواء الإعلامية الكاذبة. ساراماغو يكتب الحياة بشكلها الفني، يكتب فناً يقدم مفاتيح للسؤال عن كنه الحياة، ويقدم أسئلة تأخذ القارئ إلى مناطق بعيده في الفكر والتاريخ والفلسفة. في رواية «الآخر مثلي»، يكتشف مدرس تاريخ، أن ممثلاً سينمائياً ثانوياً يتشابه معه، ولحظتها تتملكه الرغبة الإنسانية المحضة، ويتملكه الفضول في رؤية الآخر والتعرف إليه، واكتشاف عالمه. يبدأ رحلة البحث المضنية عن الآخر، وعبر الكثير من المعاناة وبمساعدة صديقته، يتمكن أخيراً من الوصول إلى الممثل، ويتفق الاثنان على اللقاء، وتكون المفاجأة عندما يقف الإنسان عارياً أمام مثيله، كلاهما صورة طبق الأصل عن الآخر، لكن هل يتسع العالم لشبيهين، متماثلين شكلاً ومختلفين روحاً؟ هل يحتمل العالم قوتين تحملان الملامح الخارجية نفسها، لكنهما تختلفان في الجوهر؟ هذه هي الرسالة التي أرادت الرواية توصيلها للقارئ. جوزيه ساراماغو، يكتب رواية عالية السوية، وبالتالي هو يتوجه إلى قارئ خاص، قارئ يستطيع أن يتعايش مع النص في أثناء كتابته. فرواية «الآخر مثلي» مكتوبة بصيغة اللارواية، فالراوي يقوم بدوره على مقربة من القارئ، يضع مجموعة من الاحتمالات لما يمكن أن تكون عليه ردة فعل شخوص الرواية، ومن ثم يترك للرواية أن تقول أحداثها، من دون تدخل منه، ومن دون أن يفسد على القارئ متعة الاكتشاف. إن وقوفاً متأنياً وفاحصاً أمام إنجاز أي روائي، يبين بما لا يدع مجالاً للشك، أن هناك موضوعة واحدة أساسية تحكم فكر أي كاتب، وأنه ينتح من بئر لغة واحدة، وأنه مهما حاول أن ينوّع على ذلك فلن يذهب بعيداً، وأن رصَّ أعمال أي كاتب بعضها إلى جانب بعض كفيل بتقديم خارطة وافية، عن فهمه للحياة، وأهم القضايا التي تشغل فكره. جوزيه ساراماغو، صاحب «عام وفاة ريكاردو ريس»، و«تاريخ حصار لشبونة»، و«الطوف الحجري»، و«العمى»، و«الخطيئة»، و«كل الأسماء»، وأخيراً «الآخر مثلي». ساراماغو، كاتب ينظر إلى العالم بوصفه كوناً صغيراً، ويتناول الإنسان بوصفه محرك هذا الكون، لذا فإن أبطال أعماله الروائية يعدون على أصابع اليد الواحدة، لكنهم يختصرون هواجس وأحلام العالم.
توابل - ثقافات
ساراماغو... عبقرية الكتابة والإبداع!
06-05-2008