Ad

الديموقراطية لم تعد ترفاً فكرياً أو رغبةً للتباهي والادعاء، بقدر كونها فرض عين وواجباً واستحقاقاً يتطلب الإقرار بالتعددية واحترام حقوق الإنسان وإجراء انتخابات دورية وتداولية السلطة سلماً، وليس أمراً شكلياً أو استغلالاً لأغراض دعائية خاصة.

ماذا يعني إعلان رئيس دولة وزعيم سياسي رفيع المستوى ومن موقعه في قمة السلطة السياسية أن الديموقراطية «خيارٌ لا عودة عنه» ، خصوصاً إذا كان يخاطب نخبة من المثقفين والمفكرين المنشغلين بقضايا الديموقراطية والاصلاح؟

الأمر ببساطة يعني أن الديموقراطية أصبحت ضرورة ماسّة وحاجة ملحّة ومساراً كونياً تحكمه قواعد عامة وخصوصيات لكل بلد لناحية تطوره. ولعل هذا الإعلان يعني أن مسؤولية تحقيق الديموقراطية هي شأن لا يخص الحكام وحدهم برغم دورهم الحاسم في تحقيق التحوّل الديموقراطي، فالديموقراطية تعني الجموع الواسعة من السكان التي تعاني التهميش والفقر ونقص الحريات وشُحّ فرص التعبير وضعف المشاركة السياسية، الأمر الذي يستوجب من النخب الفكرية والسياسية والثقافية في السلطة وخارجها، بما فيها المعارضة ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات والجمعيات المهنية والاجتماعية، التمسك بهذا الخيار لوضعه موضع التنفيذ الفعلي، والسعي لإزالة العقبات التي تعترض طريقه، خصوصاً بعض مظاهر العنف والإرهاب والغلو الديني والانقسام الفئوي والطائفي وغير ذلك.

والخيار يعني أن الديموقراطية لم تعد ترفاً فكرياً أو رغبةً للتباهي والادعاء، بقدر كونها فرض عين وواجباً واستحقاقاً يتطلب الإقرار بالتعددية واحترام حقوق الإنسان وإجراء انتخابات دورية وتداولية السلطة سلماً، وليس أمراً شكلياً أو استغلالاً لأغراض دعائية خاصة.

مناسبة الحديث عن خيارات الديموقراطية هي الرسالة التي وجهها الرئيس اليمني علي عبدالله صالح إلى ملتقى صنعاء للديموقراطية في الوطن العربي، والتي أكدّ فيها «أن الديموقراطية خيارٌ لا عودة عنه» وقبل ذلك في 14 يونيو الماضي خلال استقباله مجموعة الشخصيات المؤسسة للرابطة العربية للديموقراطية عندما أعلن أن الديمقراطية أصبحت ضرورة... ونحن لا نخاف من الرأي ومستعدون أن نعدّل ونغيّر ونتلمس ما نراه صحيحاً من خلال انتقادات الآخرين، بل إنه تبنّى مشروع «العهد العربي للديموقراطية» الذي أقرته الرابطة العربية للديموقراطية، وتعهّد بعرضه على جامعة الدول العربية لاعتماده.

لقد التبست علاقة المجتمع المدني بالدولة الى حدود غير قليلة، وتداخلت معوقات التغيير الديموقراطي ما بين شراكة وقطيعة «الداخل» و«الخارج»، لدرجة أنه تم التذرّع بها أحياناً للحؤول دون إحداث التغيير المنشود في مجتمعاتنا للّحاق بركب التقدم الحضاري، الأمر الذي عمّق الافتراق وعاظم الهوّة بين مجتمعاتنا العربية والإسلامية وبين التطور الدولي، خصوصاً استمرار القيود والكوابح التي ما تزال تعرقل التنمية والتطور الديموقراطي.

إن الاحتكام الى قواعد عقلانية وموضوعية، ناهيكم عن قانونيتها وشرعيتها وتدرّجها السلمي التراكمي، يمكنه فتح الطريق لمساهمة النخب الفكرية والثقافية والسياسية المدنية لإنجاز مشروع التغيير والتطور الديموقراطي. ومن التجربة الكونية يمكن القول إن لم يأت ِالتغيير تراكمياً سلمياً وضمن مسار ٍوانفتاح، فإنه قد يأتي عاصفاً ومدوّياً ويترك انعكاساته السلبية على أوضاع الحاضر والمستقبل، بل إنه يعطّل التوجّه الحقيقي للتغيير الديموقراطي، ناهيكم عن كونه يساعد قوى الاستتباع والهيمنة على فرض مشروعها بما يقوّض السيادة والاستقلال.

إذا كانت الديموقراطية خياراً وضرورةً، فالحكومات والحالة هذه، بحاجة إلى شراكة حقيقية من مؤسسات المجتمع المدني والنقابات والمنظمات المهنية والأحزاب والقوى السياسية للاضطلاع بدورها في عملية التحول الديموقراطي، وهي مسؤولة بقدر مساهمتها الفعلية وتحمّل واجباتها عن نجاح أو إخفاق عملية التحوّل وإن كانت بدرجات أدنى، الأمر الذي يحتاج من مؤسسات المجتمع المدني التحرك باتجاه الانتقال من قوتها التحريضية الاحتجاجية، لتصبح قوة اقتراحية وشريكة بقدر ما تستطيع تقديم مشاريع أنظمة وقوانين للبرلمانات والحكومات، لتكون عنصراً فعّالاً وحيوياً ورصدياً في الآن ذاته لأداء الحكومات والجهات الرسمية.

ولتأكيد الديموقراطية كقيمة عليا وصيرورة كونية لأحسن نظام أنجبته البشرية حتى الآن برغم بعض ثغراته وعيوبه وعوارضه الجانبية، فلا بدّ من الشروع به من دون تأجيل كضرورة لا غنى عنها، مهما كانت وعورة الطريق والعقبات التي تعترض الإرادات السياسية المدنية، لأن سلوك سبيل التحوّل الديموقراطي سيقود في نهاية المطاف إلى التنمية والتضامن الاجتماعي والسلام المجتمعي والعدالة، ويضع الأسس الصحيحة لسيادة القانون والحكم الصالح واستقلال القضاء وضمان حقوق الإنسان المدنية والسياسية وحقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما فيها حقه في العمل والصحة والتعليم والضمان الاجتماعي والتمتع بمنجزات الثقافة والأدب والعيش الكريم.

هكذا تغدو الديموقراطية خياراً مجتمعياً لا عودة عنه، بل إنها قضية وطنية وحقوقية وإنسانية، بدوائرها الثلاث القانونية التشريعية، والمؤسساتية بما تتضمنه من شفافية ومساءلة، والتطبيقية بما فيها من جوانب عملية وتراكمية.

* كاتب ومفكّر عربي