كتبت في المقالة السابقة عن العمر الافتراضي للنص ومدى صلاحيته، وعن بعض الكتاب الذين يترددون في نشر نصوصهم القديمة التي لم تنشر... بعد اشتهارهم ولمعان اسمهم، وخوفهم من اهتزاز قيمتهم الإبداعية لدى القارئ حين نشرها.
وقلت حينها إن النص الجيد هو صالح للنشر منذ ولادته، والنص غير الجيد هو غير صالح للنشر أيضا منذ ولادته، فإذن ليس هناك زمن افتراضي لصلاحية النص، فإما أن يكون جيداً حينها فيصبح صالحاً لكل زمان ومكان. أو غير جيد... فما الذي يجعل من نص صالحاً لكل زمان ومكان؟ ما الذي يعطيه هذه الصلاحية؟ اعتقد أن أهم هذه العناصر هو الصدق والعفوية والبساطة؛ الصدق هو الجناح الذي يخترق به النص كل الأزمنة ويصل إلى كل الأمكنة، والدليل على هذا كل النصوص الساحرة التي سيطرت على وجداننا بسحر عفويتها وصدقها وبساطتها. ومثال على ذلك «مقامات لاثارو» المجهول كاتبها، والتي تعتبر فاتحة للرواية الأوروبية المعاصرة، وتعود في طبعاتها الأولى إلى عام 1554 ولم تتوقف إلى يومنا هذا، ومع آلاف الترجمات لمختلف اللغات. على الرغم من بساطة أحداثها التي تحكي سيرة «لاثارو دي تورميس» أحواله ومصائبه وماجرى له من مشاكل مع الشخصيات التي قام بخدمتها. ومع هذا فحكاياته وصلتنا على الرغم من مرور أكثر من أربعة قرون على كتابتها. وفي رأيي من أهم أسرار خلود هذا النص هو الروحية التي كتب بها النص، هذه السلاسة والعفوية التي تسرد بلا حذلقة ولا تكلف. النص يعبر مثل مرور النسيم تستمتع به ولا ترى كيف عبرك. الصدق في تناول السرد هو ما يمنحه هذه الخفة وهذا العبور اللطيف. فرق بين كاتب يجلس لينحت النص كلمة... كلمة، وكاتب ينتظر سقوط النص في حضنه كتفاحة نضجت بعيداً عن الأنظار. الفرق بينهما هو الفرق بين الفرزدق وجرير... احدهما ينحت في الصخر والآخر يغرف من البحر. الغرف من البحر هو هذه العفوية والصدق والبساطة في التعامل مع الكتابة، أو ما يسمى السهل الممتنع، هذا الذي يبدو سهلا بالرغم من أنه بلغ الذروة في اكتماله ومثال على ذلك رواية «جاك المؤمن بالقدر» التي كتبها «ديدور»، ومضى على كتابتها ما يزيد على قرنين من الزمان، ولم تترك لمن جاء من بعدها شيئا يُذكر. ومن العناصر المهمة أيضا إنسانية النص، فالنص الإنساني يملك سرعة الضوء في اختراق الزمن والخلود، والعبور إلى كل ذات إنسانية. وهو ما ينطبق على رواية «ديدور» وعلى رواية «خوان رامون خمينيث» وهي «أنا وحماري» القمة في بساطتها وعفويتها وصدقها وإنسانيتها وسلاسة لغتها. هذه اللغة البسيطة المدهشة والمستولية على جوهر إنسانيتها وصفائها، وبراءة طفولتها، استطاعت أن تعبر مشاعرنا كحلم نراه ولا ندركه. إذن عفوية النص وصدقه وعمق إنسانيته وفيض إحساسه، وسلاسة اللغة وصفاء نبعها وجوهر المعنى، في رأيي أهم أساسيات الكتابة. وإن اكتفت الكتابة بتلك الأساسيات التي ذكرتها فستصل إلى كل مكان... وإلى كل زمان. وستكون صالحة للنشر منذ ولادتها على الورق، حتى وإن تأخر نشرها ونامت في الأدراج سنوات وسنوات. ستنبض بمجرد لمس وريقاتها... وستتفتح ببراعم المعنى، وأصوات الحياة.
توابل - ثقافات
أصوات الحياة
05-05-2008