أيا صفية... لو تعلمين بحالي!
ما نراه الآن ليس إلا كشفاً لما كان مستوراً، وتبياناً لواقع الحال الذي كان يسري في جسم الوطن مما أدى إلى تدهوره واعتلال صحته، فحالة التدهور والضياع لم تتسبب بها الحقبة الحالية بل هي ليست إلا ميراثاً شرعياً لمجريات الأمور منذ زمن بعيد، وما البحث في التفاصيل إلا مضيعة للوقت.
أكتب هذه المقالة من جنيف حيث تجتمع دول العالم لمناقشة أوضاع حقوق الإنسان المتردية والمتدهورة، وكل يغني على ليلاه، أما الإنسان وكرامته فيأتي في آخر سلم الأولويات، وبالمقابل أتحسّر إلى ما آلت إليه الأمور في الكويت التي لديها من إمكانات ما تتفوق فيه على البلدان التي نناقش أوضاعها، ولكن إدارتها السياسية عاجزة عن تحقيق الخطوة المطلوبة للأمام، والتي يبدو أنها أصبحت حالة مرضية بحاجة إلى علاج جذري ولا تحتاج إلى مسكنات أو مهدئات.ويخطئ من يظن أنه سيجد الإجابة عن حالة الضياع التي نعيشها من خلال نقاش التفاصيل والأشخاص، فلا يبدو أن ذلك سيوصلنا إلى فهم العلة، وبالتالي وصف الدواء، فحالة الضياع والتردي المسيطرة على المشهد السياسي هي حالة قديمة بدأت ربما منذ عام 1966 عندما تم حلّ المجلس البلدي وتبديد 200 مليون دينار خلال أقل من سنتين على التثمين الفاسد والمفسد ،وتم تتويجها بتزوير الانتخابات عام 1967، وبالتالي الردة عن الدستور والالتزام بقيمه ومبادئه المؤسسية.منذ ذلك التاريخ دخلنا في متاهة قيم الارتداد والنكوص عن بناء الدولة، وتم إدخال البلاد في قيم عدم الجدية، والاستخفاف بالمؤسسية، والتعامل بخفة مع القانون، والتذاكي على القواعد الحاكمة، والالتفاف على اللوائح والنظم، وظلت الأمور تجري بنفس الوتيرة ونفس التفاصيل يقطعها بين الحين والآخر انقلابات ساخرة على الدستور كما حدث في عامي 1976 و 1986 ليتولى الحكم خلالها عزفاً منفرداً على «القانون» كانت نتائجه كارثية على المجتمع، فالأولى كانت حاضنة لأزمة المناخ والثانية كانت حاضنة للغزو.وكان لافتاً للنظر أن تلك الردة أو الردات المتقطعة تتم دائماً من خلال إيجاد عناصر فاسدة داخل البرلمان وخارجه للتصدي للنواب المجتهدين (ولن أقول الوطنيين)، وشيئاً فشيئاً تصبح تلك العناصر الهجينة جزءاً من الطيف السياسي، ويصبح لها وزن وقول وفعل، وما تلبث تلك العناصر حتى تصبح ذات كلفة عالية مرهقة على النظام نفسه. كما يلاحظ أن تلك المجموعة الفاسدة على تباينها وتنوعها وتقاطعها مذهبياً وقبلياً وفئوياً، قد أُدخلت أو دخلت في أتون الخلافات والصراعات التقليدية داخل الأسرة الحاكمة، فتحولت إلى مراكز قوى قادرة على التحرك والتأثير بعض الأحيان بشكل مستقل أو ربما بدا مستقلاً. واختلط بذلك حابل الأمور بنابلها وأخذت تلك المجاميع تفرّخ مجاميع أخرى أصغر فأصغر فأصغر حتى لم تعد هناك قدرة على حساب المجاميع الطامحة والطموحة للوصول إلى نهاية الأرب والذي ينتهي بإفراغ الدولة من مضامينها المؤسسية.وربما أخفت الحقبة الماضية، بنمط الحكم المركزي، الغارقة في التكتيك، وتحقيق الانتصارات الصغيرة، وربما الهزائم أحيانا، الكثير من تلك الفجوات والفراغات التي تأصلت في المجتمع حتى كادت أن تتحول إلى أورام سرطانية.أما ما نراه الآن فهو ليس إلا كشف لما كان مستوراً، وتبيان لواقع الحال الذي كان يسري في جسم الوطن مما أدى إلى تدهوره واعتلال صحته، فحالة التدهور والضياع لم تتسبب بها الحقبة الحالية بل هي ليست إلا ميراثاً شرعياً لمجريات الأمور منذ زمن بعيد، وما البحث في التفاصيل إلا مضيعة للوقت، فليست الأزمات الأخيرة كالدواوين أو زيادة الرواتب أو معالجة أزمة التأبين إلا مؤشرات على علة أعمق وأشد بأساً.فهل من مخرج؟ ربما. إلا أن نقطة الانطلاق لابد لها أن تكون من حيث بدأنا، الالتزام بالدستور والاتفاق على توديع حالة التذبذب. فنبدأ بتحصين كل القوانين المناقضة للدستور أو المتضمنة شبهات دستورية، وبالتالي يتم عن يقين تحديد الموقف من الدستور (يا خال؟ يابو ثنتين؟)، إما الالتزام بالدستور وفتح حوار جدي حول كيفية الالتزام به، وإلا فالأزمات لن تتوقف. إنها فرصة قد ننقذ فيها ما يمكن إنقاذه. إنه المدخل الوحيد وهو البداية ليس إلا.عدا ذلك فليست ديموقراطيتنا المزعومة إلا «سراباً بقيعة»، وليست مواعيدها إلا مواعيد عرقوب، ونأمل ألا نصل إلى أن نردد مع سعد زغلول قوله:«غطيني يا صفية... مفيش فايدة»!!