يا لوطأة الحزن على القلب... ويا لشدة قتامة الأسى على الروح، ويا لقوة الصدمة في العقل، ويا لتشظي المباهج في الحياة.
إذن: أهكذا يمضي أحمد الربعي عميقاً، عميقاً في الأرض التي أحبها دون وداع، مثلما كان عميقاً عميقاً فوق الأرض التي أحبها في كل لقاء. أهكذا كومضة البرق تختفي ابتسامة أبي قتيبة الشاسعة التي كانت تملأ المدى لتنطوي فجأة كتجهّم الغيمة في ظلمة القبر، أهكذا تصمت ضحكته المجلجلة المفعمة بالأمل وتتلاشى في الأبعاد. يا إلهي كم ملأ حياة الأصدقاء شغباً وحباً وصعلكة وشجاراً واختلافاً وعتاباً و«تشرّهات» كثيرة، ولكن كل ذلك لا يصل إلى حد القطيعة والجفاء لأن «الساحر» كما كان يسميه محبوه لا تعرف من أين ومتى ينبثق لك ليُقبّل خشمك ولا تملك حينها إلا الابتسام، وتقول له «طاح الحطب» خلاص، وهذا بالضبط ما حصل لي معه حينما تسلّم حقيبة وزارة التربية في الكويت إذ كان قبل أن يتسلم الحقيبة -رحمه الله- يسعى الى إلحاق ولدي سامي بالجامعة، التي كانت هنالك ظروف قانونية، لا يقرها هو، تحول دون إلحاقه بها، ووعدني حينما أصبح وزيراً باجتثاث تلك القوانين الإدارية التي كانت تقف عائقاً في وجه «فئة» كبيرة من طلبة الثانوية تمنعهم من الالتحاق بالجامعة. ولأنه لم يستطع تحقيق ذلك الأمل لطلاب تلك الفئة غضبت عليه، وحاولت الاتصال به مراراً، ولكنني لم أفلح على الإطلاق ومن يومها شطبت اسمه من الذاكرة وقررت انني ما إن أواجهه فسأصب عليه سيلاً هائلاً من الإدانات والتقريع والتجريح مهما كانت ظروف اللقاء، وبالطبع لم أواجه الربعي ولسنوات في الكويت، وكانت أمور سامي قد سارت على أروع ما يكون في المملكة، ولكنني لم أنس ذلك الخذلان. وذات مرة دعاني الصديق الرائع محمد الناصر السديري إلى مزرعته في الغاط قائلاً لي «عندي مفاجأة لك»، ولكن محمد بالطبع لم يكن يعرف ما بيني وبين الربعي من قطيعة واختلاف، ولكنني ما إن دخلت الخيمة التي أقامها الصديق السديري على حافة المزرعة حتى أصبت بالذهول لأنني أصبحت مع صديقي القديم أبي قتيبة -وجهاً لوجه- ولست أدري حتى الآن كيف «خمَّني»، وهو يردد عباراته اللطيفة الساحرة ممزوجة بأبيات من الشعر الساخر التي حفظها لي وكأنه يذعن للإدانة ويعترف بالقصور، ثم واصل الهرج كعادته فمسحت كل ما علق بالقلب من غضب ورحنا نستعيد الشعر والذكريات. أي ان الربعي -رحمه الله- كان محباً كبيراً لا تملك إلا أن تحبه رغماً عنك، وكان واضحاً وساطعاً وحارقاً كالشمس في كل مواقفه السياسية سواء تختلف أو تتفق معه منذ أن كان طالباً في ثانوية الشويخ فمعارضاً نبيلاً ينشد الإصلاح، فمقاتلاً مع الفدائيين الفلسطينيين في الأغوار، فمناضلاً ضد الوجود الإنكليزي ومخابرات شاه إيران «السافاك» في بعض دول الخليج قبل الاستقلال. وقد دفع أحمد الربعي الثمن غالياً لقاء كل مراحله السياسية، ثم عمل في جريدة السياسة، فطالباً في جامعة الكويت في قسم الفلسفة ثم واصل رحلته الدراسية إلى الولايات المتحدة ليعود أستاذاً وكاتباً ومثقفاً خاض غمار الانتخابات بلا أية احتفالية أو دعايات، بل كل ما فعله هو أنه نصب خيمة وأخذ يحاضر فيها ويشرح برنامجه الانتخابي ليحظى بفوز كاسح ويغدو عضواً في مجلس الأمة عدة دورات، ثم انفصل سياسياً عن المنبر الديمقراطي وأصبح «مستقلاً» حتى وافته المنية قبل أيام. وعلى الصعيد الاجتماعي، يُعتبر شبكة هائلة من العلاقات ومن مختلف الطبقات والفئات في الخليج والجزيرة العربية والعالم العربي، فهو صديق للسياسي مثلما هو صديق لراعي الإبل، وقد تجده في قصر أحد الشيوخ أو في «صندقة» في العشيش، وهو حضاري وحضري مع الحضر، وبدوي حضاري مع البدو، لا يعرف التكلف والكبرياء والتمييز وهو صديق الأمراء والفقراء والشعراء على حد سواء. فليرحم الله أبا قتيبة، فرحيله خسارة لوطنه وأمته وللحياة..
توابل - مزاج
وداعاً ساحر المحبة
16-03-2008