حين هجر كاندنسكي (1866-1944) روسيا عام 1896 إلى أوروبا، أخذ معه بذور التجريدية، التي تملك حصة الأسد من فن الرسم هذه الأيام، لكن الذي غيّر توجهه في الدراسة من القانون إلى الفن، هو معرض الانطباعيين الذي أقيم في موسكو، فمنذ تلك الفترة وروسيا تعيش غليانا في أفكار الفن والأدب والايديولوجيا، حتى طغت الأخيرة على كل شيء، حين تسلّمتْ الشيوعيةُ السلطة، وأماتتْ بين الذي أماتت، الفن والأدب والفكر.
في تلك المرحلة الفتية، وعلى أثر المعرض الانطباعي، اندفع معنيون من الأثرياء بالفن إلى شراء لوحات الفرنسيين الجدد من الانطباعيين وما بعدهم، من فناني التيارات التي زاحمت الانطباعية، مثل التكعيبية والوحشية، وكان أشهرهم شجوكن وموروزوف، على أن هناك ثالثا هو تريتايكوف، كان يُعنى باقتناء لوحات الفنانين الواقعيين الروس. كانت روسيا - آنذاك - تزخر بالتعارضات بين الانتساب الحار إلى التربة والموروث الروسيين، وبين رغبة الانتساب إلى الغرب. لكن هذا التعارض حقق فاعلية مشهودة عرفناها في نتاج الأدب والموسيقى من الجيل الأسبق. جامعو اللوحات الكبار، سرعان ما خضعوا لقرار التأميم الاشتراكي، بعد ثورة 1917. وُزّعت اللوحات على المتاحف الأساسية ليراها الناس جميعان على أن ورثة المالكين الأساسيين، مازالوا يثيرون مسألة ملكيتهم للوحات، كلما خرجت هذه اللوحات من متاحفها، على سبيل الاستعارة، إلى معارض النشاط الغربي خارج روسيا. وتُقسم الحكومة الروسية في كل حين، على ألا توافق على إعارتها، لما في هذه الإعارة من مغامرة، حدث هذا مرات عدة في سنوات سابقة، وها هو يحدث مع الأكاديمية الملكية للفن في لندن، فقد وعدتْ الناس منذ أشهر عدة بإقامة معرض ضخم لهذه المجموعة النادرة من لوحات الفن الروسي - الفرنسي، ومرات عدة جفل الناس من رفض المسؤولين الروس، إلى أن تم الأمر على تحقيق ضمانة أكيدة لعودة اللوحات غير ناقصة إلى مكانها الأمين، وافتُتح المعرض قبل أسبوعين. ذهبتُ إلى المعرض متأخرا في الوقت، تجنُّبا لزحمة الطابور المعتاد، لكني فوجئتُ بالطابور ذاته يمتد حتى قرابة بوابة الأكاديمية الخارجية. في كل مرة أرى ظاهرة إقبال الناس على معارض الفن هنا، أستعيد في كياني ما عبّأه الإعلام الثقافي العربي، والمثقفون العرب من أسطورة استحواذ الجانب التكنولوجي على حضارة الغرب، وافتقاده إلى الروح التي خُصِصنا بها نحن! المعرض يضم 126 لوحة، كم تعرفتُ على بعضها مطبوعة في كتب الفن، من دون فرصة أن أتأمل حركة فرشاة الفنان مع اللون والخط. في قرابة ساعتين من التجوال المتأني، استطعتُ شيئا من ذلك، رأيتُ الألوان الثلاثة الخالصة التي انفردتْ بلوحة «رقص» الكبيرة لماتيس، ورأيتُ «الغرفة الحمراء»، التي اكتفى فيها ماتيس بسطح قاني الحُمرة، ولم تتشكل الجدران والمائدة داخله إلا من خطوط سوداء بدت عابرة، كل شيء فيها، حتى المرأة، بدا تطريزا مشرقيا يبعث على الحيوية، رأيتُ مقدار صعوبة التأليف في لوحة غوغان، ومقدار بساطة اللون، تأملتُ طويلا «المربع الأسود» (1923) الشهير لـ «ماليفيج»، فلم أتعرف إلا على وهم المتصوف بأنه يستطيع عبر وسيلة تعبيره في اللغة أو التشكيل، إيصال ما يراها هو ويحسه هو من شطحات. كاندينسكي وماليفيج أول رياح التجريد الروسية، التي هبت على الغرب، حاول الأول الانتفاع من الفولكلور، ثم راح يجرد مشهده من التفاصيل الواقعية، منتفعا من ألوان المدرسة الوحشية، ثم حاول الثاني الدخول في بحران الفن الصافي أو الخالص، جاعلا من المربع الأسود والدائرة السوداء نقطة انطلاق باتجاه العمق الغامض، لا السطح المتسع. المعرض يتوزع على تسع قاعات كبيرة، كل واحدة تنفرد بعنصر فعال ومؤثر، في تظاهرة الفورة الفنية الروسية - الفرنسية، في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. فعالية جامعي اللوحات في جعل أعمال الفنانين الفرنسيين، وخاصة سيزان، مصدر تأثير مدهش على الفنانين الروس، هناك لوحات بدت لي لسيزان عن مبعدة، ثم اتضح لي بأنها لفنان روسي، الأمر ذاته يتكرر مع فنانين شكلوا تيارا روسيا للمدرسة «البدائية الجديدة»، وأخرى «للمستقبلية - التكعيبية»، وثالثة «للبنيوية»، وأخيرة واسعة للتجريدية.
توابل - ثقافات
رياح التجريد الروسية
14-02-2008