Ad

وضع لحياته نظاماً صارماً، لا يحيد عنه، ومد أذرع هذا النظام إلى مختلف مناحي معيشته، سواء في إبداعه الأدبي الغزير والفياض والمتميز، أو في مسيرته العملية المتتابعة.

من يمعن النظر في حياة العرب الراهنة يجدها، في الأغلب الأعم، متخبطة زائغة، لا يحددها هدف، ولا تحكمها غاية، تعج بالفوضى، وتفتقد الانضباط والاتزان، وتفتقر إلى الدأب، ويعوزها الإصرار على بذل الجهد المنظم والمنتظم، الذي يعد وسيلة مهمة للإنجاز، والترقي في المعيشة، وطريقة ضرورية لتحقيق جزء كبير من أسباب وجود الإنسان في الدنيا، بتعميره الأرض، وكدحه الدائم ومكابدته من أجل أن يكون اليوم أفضل من الأمس، والغد أحسن من اليـوم.

لكن هذه الصورة العامة الحافلة بالفوضى لا تخلو من مشاهد نادرة للانضباط والاتزان والدأب، تبرهن على كذب ادعاءات من ربطوا بين العبقرية والتحلل، وبين الإبداع والهذيان، وتؤكد أن الجل الأعظم من التفرد والتميز يتكئ على بذل الجهد، وتدريب النفس على مشقة العمل الدائم، والعطاء المستمر، وتثبت كذلك أن الموهبة كائن حي، تحتاج إلى الرعاية المنتظمة، كي تنمو وتستوي على سوقها، وتزدهر فتمنح صاحبها توهجاً دائماً، فيعطي مجتمعه خير ما لديه، وأفضل ما عنده، فيكبر به وبأمثاله من أصحاب القرائح المتوقدة، والأذهان الثاقبة، والبصائر النيرة.

وقد كان أديبنا العربي الكبير نجيب محفوظ، الذي نعيش في هذه الأيام ذكرى مرور عام على رحيله، واحداً من الأمثال الراسخة للانضباط والجد والاجتهاد، فقد وضع لحياته نظاماً صارماً، لا يحيد عنه، ومد أذرع هذا النظام إلى مختلف مناحي معيشته، سواء في إبداعه الأدبي الغزير والفياض والمتميز، أو في مسيرته العملية المتتابعة، موظفاً بوزارة الأوقاف ومشرفاً على هيئة الرقابة على المصنفات الفنية، وكاتباً في صحيفة الأهرام، أو حتى في سلوكياته اليومية البسيطة، أو مراعاته لصحته، وترويضه لمرض السكر، الذي يحتاج إلى تصرفات محسوبة، والتزامات دقيقة في كل ما يدخله الإنسان في جوفه من طعام أو شراب.

وقد بلغ محفوظ في هذا حداً عالياً، يصلح أن يقدم للأجيال اللاحقة على حياته، نموذجا يحتذى، ومثلا يُقتدى به. فمحفوظ كان يعرف قيمة الوقت، وينظر إليه وفق الحكمة ذائعة الصيت التي تقول «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك»، ومن ثم فإنه أنجز كماً هائلاً من الأعمال الروائية والقصصية والحوارية والمقالات والترجمات، رغم أنه كان مضطراً الى التوقف عن القراءة والكتابة ستة أشهر من كل سنة، بسبب مرض الرمد الذي أصاب عينيه، كان يقضيها في التأمل، والتخطيط الذهني لروايته، التي تتسم بمعمار قوي، راسخ الأركان، متماسك المكونات، حافل بلغة جميلة عميقة، ورؤى شاملة.

وكان محفوظ يؤمن بأن الجهد الفائق هو العمود الفقري للعبقرية، ومن هنا كان حريصا على أن يجلس كل يوم ينعم فيه بالإبصار السليم المعافى كي يكتب، إلى الدرجة التي كانت تبدو فيه المنضدة جزءاً عزيزاً من جسده. وهذا الحرص جعله يكتب حتى الرمق الأخير، فلما شلت يمينه بعد محاولة اغتياله في عام 1994 راح يدرب يده على الكتابة بحروف مرتعشة، وكأنه طفل حديث عهد بالقلم، حتى تمكن من أن يخط سطوراً قصصية جديدة، ثم انتهى إلى الإملاء على سكرتيره الخاص، حتى لا يكف عن الكتابة مهما حصل. ولما انقطعت صلته بتفاصيل المجتمع والناس لضعف سمعه وبصره لجأ إلى رؤى الليل وأحلامه، لينسج منها أقاصيص رائقة عميقة، جمعها في كتابه «أحلام فترة النقاهة».

وكان أشد حرصاً على القراءة التي أوصى بأن تكون «بلا حدود وفي أي اتجاه»، فتابع في سنواته الأخيرة بعض الكتابات الأدبية الجديدة، وظل يحرص على الإلمام بما ينتجه بعض الكتاب الصحافيين المفضلين لديه، وكان سكرتيره يقرأ له ما يريد، حتى اليوم الذي دخل فيه المستشفى للمرة الأخيرة.

وعلى التوازي مع الإبداع كان نجيب محفوظ موظفاً منضبطاً خلال سنوات عمله المديدة في وزارة الأوقاف، فلم يتغيب عن مكتبه إلا لعذر قاهر، ولم يتأخر عن لحظة الحضور الرسمية أبداً، وبلغ في هذا مستوى عجيباً، جعل كثيرين يضبطون ساعاتهم على وصوله. فقد كان يخرج من بيته في حي العجوزة في وقت لا يتغير، ثم ينعطف يساراً على كوبري قصر النيل، ليتوغل في وسط القاهرة، حتى يصل الى مبنى وزارة الأوقاف الكائن في حي باب اللوق في موعده المحدد.

ولم يشعر محفوظ يوماً، على قامته الإبداعية المديدة، أنه فوق الوظيفة، أو أنها قد ضاقت على موهبته الرحيبة، بل أداها بتفان شديد، وإخلاص كبير، وهمة عالية، وكرر السلوك ذاته حين انتقل الى العمل في الرقابة على المصنفات الفنية، والكتابة في صحيفة الأهرام، فصار مضرب الأمثال في الجد والإخلاص.

أما الانضباط مع المرض فلم يقل عن نظيره مع العمل، فمحفوظ طبَّق نصيحة طبيبه بدقة، فصاحب مرض السكر، حتى روضه وطوعه تماماً، وبلغ في احترام مرضه درجة أغاظت طبيبه نفسه فقال له يوما «إنني دائما أنصح مرضاي بأن يلتزموا بتعليماتي، أما معك فلأول مرة أجدني أرغب في أن أنصح مريضا بأن يخالفني».

رحم الله نجيب محفوظ، فقد تعلمنا منه أشياء أخرى، غير تواضعه وتأدبه الجم، وسرده الجميل المنطوي على كثير من القيم والمعاني الإنسانية الكبرى.

* كاتب وباحث مصري