Ad

تقوم المداخل المنهجية السليمة لقضية اشتغال المرأة في العمل القضائي على 3 أبعاد هي: البعد الحقوقي والإنساني الذي أكدته الدساتير ومواثيق حقوق الإنسان، ومن قبلها النصوص القرآنية والنبوية، والبعد التنموي الذي يستدعي أن يكون منطلقنا في مناقشة قضية المرأة هو «فقه الواقع»، والبعد الثالث يتعلق بالتجارب المعاصرة للمرأة العربية في الممارسة القضائية عبر نصف قرن.

نظّم طلبة كلية القانون بجامعة قطر حلقة نقاشية حول «تقلّد المرأة لمنصب القضاء بين القبول والرفض» حضرها جمع من أساتذة كليتي القانون والشريعة وممثلون للمجلس الأعلى للأسرة وبعض الطالبات، كانت الحلقة ثريّة بالحوار الموضوعي البنّاء، وقد أثمرت عن حصول توافق عام بين علماء الشريعة وأساتذة القانون على «أنه لا يوجد نص صريح من القرآن أو السنّة يمنع المرأة من تولية القضاء».

وقد أوضح أحد أساتذة الشريعة أن التعليلات التي حظر الفقهاء القدامى بموجبها القضاء على المرأة طبقاً لحديث «لن يفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة» أصبحت غير قائمة الآن في المجتمعات المعاصرة، حيث المرأة العربية أصبحت اليوم تشارك في الحياة العامة وتمارس دورها في التنمية بشكل واسع في كل الميادين التنموية والتعليمية، وهي تقابل الجنس الآخر في مختلف المجالات المجتمعية.

لقد أسعدني هذا التوافق الذي شكّل أرضية مشتركة بين جميع الحضور، وإن كان البعض تحفّظ على ما سماه «إقحام» المرأة في مجال القضاء لمجرد إرضاء «الخارج» واستجابة «لضغوطه» في عملية متسرّعة لا يسبقها تأهيل كاف، وتدرّج طبيعي كفء، ومع أن الحلقة استهدفت فتح الباب أمام المرأة القطرية للعمل في مجال القضاء إلا أن الحوار تناول المرأة العربية -عامة- وتجربتها في العمل القضائي في العديد من الدول العربية، خصوصاً المغرب والجزائر وتونس والعراق، وهي دول سمحت للمرأة بالقضاء منذ أكثر من نصف قرن، وقد وصل عدد القاضيات العربيات إلى أكثر من (10) آلاف قاضية، وأصبحن يشكّلن نصف القضاء المغربي وثلث القضاء الجزائري، وأكثر من الربع في كل من لبنان وتونس و8% من القضاء السوداني و4% من القضاء الأردني، وكانت آخر دولة عربية سمحت للمرأة بالقضاء وهي أول دولة خليجية «مملكة البحرين»، وقد أصبح لديها قاضيتان. كان النقاش يدور بشكل جميل ومدهش رغم بعض الانفعالات الحماسية التي سخّنت الحلقة، والتي لابد منها في أي أمر يمسّ المرأة، كان اللافت للنظر ويجب رصده لمصلحة تطور المجتمع القطري وانفتاحه، أن مثل هذا الحوار العقلاني لم يكن يحصل قبل سنوات من دون ردود فعل غاضبة ومستنكرة من قبل أهل الجمود. وتمّ عرض تجربة المرأة المصريّة في القضاء، واتضح أن مصر التي سبقت الدول العربية قاطبة في تخريج القانونيات تأخرت كثيراً في تعيين المرأة قاضية، وفُسِّر الأمر بالخصوصية المصرية التي ربطت العمل بالقضاء بسبق العمل في النيابة العامة، وجعلت من الثاني شرطاً للأول، وبحجّة أن عمل وكيل النيابة قد يستدعي معاينة الجرائم في أقاصي الريف المصري وفي أنصاف الليالي، فقد تم استبعاد المرأة المصرية!!

لقد كانت لي مداخلة موجزة في الحلقة ولابأس من تناولها هنا لمشاركة القرّاء:

في تصوّري أن معظم الذين تناولوا قضية «المرأة والقضاء» خصوصاً من منظور ديني، يقفزون فجأة إلى مقولات الفقهاء القدامى، وأنت إذا تناولت أي بحث أو كتاب عن «ولاية المرأة القضاء» وجدت أن الباحث لا يكاد يستطيع التحرر من الاجتهادات الفقهية بين مانع لقضاء المرأة مُطْلقاً وهم الجمهور، ومجوّز لقضائها مطلقاً وهم قلة على رأسهم «ابن حزم» الظاهري، وهكذا نجد أن العديد من البحوث التي التمست الحلول لقضية «تولية المرأة القضاء» إنما كانت تُنقِّب في بطون الكتب وتستفتي القدماء في مشكلة مجتمعية معاصرة، وهذا في تصوّري منهج عقيم لا يعين على تجديد الاجتهاد أو تطوير الخطاب الديني نحو الإسهام في حل قضايا المجتمع المعاصر. أتصوّر أن المداخل المنهجية السليمة لقضية اشتغال المرأة بالعمل القضائي تقوم على 3 أبعاد هي:

1 - البعد الحقوقي والإنساني الذي أكدته الدساتير ومواثيق حقوق الإنسان، ومن قبلها النصوص القرآنية والنبوية التي جعلت من «الكرامة الإنسانية» منطلقاً للحقوق المتساوية للجنسين على حد سواء «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ» ومقتضاه أن المرأة «إنسان» لها كل الحقوق المقرّرة للإنسان «الرجل» وأيضاً من منطلق مقاصد الشريعة التي حمّلت الجنسين -معا- مسؤولية بناء المجتمع «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» ومعنى كل ذلك أن حق المرأة في القضاء «حق أصيل» كالرجل تماماً ولا يقبل المصادرة تحت أي مبرر اجتماعي أو فقهي، وما ثبت بيقين لا يرفعه إلا يقينٌ مثله، أما الاجتهادات الفقهية فهي مجرد «ظن» لا يقوى على معارضة اليقين، ولعلّ فضيلة شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي خير من يوضح هذا الأمر بقوله: «إن الشريعة لا تفرق بين الرجل والمرأة في تولي المناصب، بما فيها القضاء، لأنه لا توجد نصوص قطعيّة تمنعها من العمل قاضية».

2 - البعد التنموي: عندما نناقش قضية اجتماعية، خصوصاً في ما يتعلق بالمرأة يجب أن يكون منطلقنا «فقه الواقع»، أي واقع المجتمع المعاصر ومعطياته ووضعية المرأة فيه، ومدى وما وصلت إليه من ثقافة وعلم وتخصّص وتأهيل ومشاركة ولا نُقيّد أنفسا بما قاله الفقهاء السابقون لأن هؤلاء -مع احترامنا وتقديرنا لجهودهم وإخلاصهم- إنما اجتهدوا ووضعوا الحلول بناء على فهمهم للنصوص الشرعية، ولكن -وأشدد هنا على «ولكن»- في إطار مجتمعهم ومدى احتياجاته وطبقاً لروح عصرهم ومعطياته وعلاقة المجتمعات الإسلامية بغيرها، ولم يدّعِ الفقهاء -رحمهم الله- أن ما قالوا هذا «الحق المطلق» والسؤال الآن: هل المرأة المعاصرة خريجة الشريعة والقانون التي تعمل في المحاماة وغيرها من المهن والوظائف هي نفس المرأة التي كانت في عهد مؤسسي المذاهب الفقهية؟ وهل حاجات مجتمعاتنا المعاصرة هي نفس حاجات المجتمعات السابقة؟ وهل الروح العامة لعصرنا هي نفس الروح التي كانت في عصر الاجتهاد الفقهي؟ وأين نحن من مفهوم الواقع؟ ومن حاجة المجتمع؟ ومن المقاصد الشرعية؟ ومن مواثيق وإعلانات حقوق الإنسان؟ ومن الاتفاقيات التي تحرّم التمييز بين الجنسين؟

كليات القانون والشريعة تخرّج سنوياً العشرات من الخريجات المؤهلات للعمل القضائي فلماذا لا تتم الاستفادة منهن، وهن مواطنات علاجاً للخلل السكاني؟ الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ بالأيسر دائماً، والقرآن الكريم مع رفع الحرج والتيسير على المسلمين، ولذلك إذا كنا أمام رأيين في قضاء المرأة أو غيره: رأي مانع ورأي ميسّر فعلينا ترجيح الرأي الميسّر دائماً لأنه المتّفق مع احتياجات المجتمع وطبقاً لقاعدة الاستثمار الأمثل للطاقات والموارد، فهل يُعقَل بعد أن صرفت دولنا على تعليم الطالبات في تخصصات قانونية وشرعية مطلوبة أن نهدر تلك الطاقات خضوعاً لفتاوى معوّقة للتنمية ومعطّلة للحقوق؟ تُرى هل نحن في دولة «دينية» مرجعيتها «فتاوى» فقهاء أم دولة مدنية حديثة مرجعيتها «دساتير» لا تفرّق بين الجنسين؟ صحيح أن الشريعة الإسلامية هي المرجعية في الدساتير ولكن يجب أن يكون واضحاً للجميع أن المقصود بها «المبادئ والقواعد الكلية» التي تشكل «الثوابت» لا «الفتاوى» و«الاجتهادات» المتغيرة.

دولنا المعاصرة تعتمد «تشريع» البرلمان لا«فتاوى» الفقيه، ودساتيرنا لم تحرّم قضاء المرأة، والشريعة لم تحرّمه، ولو كان محرّماً لما وسع «ابن حزم» وكبار الفقهاء المعاصرين مخالفته. ثم إننا أعلم بأمور دنيانا كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- أي أننا أعلم بالأمور السياسية والاجتماعية والتنظيمية والمصالح العامة والعلاقات الدولية من الفقهاء قديماً وحديثاً، وقد اعترض عليّ أحد المشايخ بأن الحديث خاص بتأبير النخل وغفل عن القاعدة الأصولية «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، وتناسى مشاورات الرسول طلباً لخبرات وتجارب الغير الأعلم.

3 - التجارب المعاصرة: أصبح للمرأة العربية في الممارسة القضائية عبر نصف قرن رصيد واسع من التجارب الثرية تثبت كفاءتها ومقدرتها، ومسألة «عاطفية» المرأة وتأثيرها في الأحكام صارت من قبيل «الخرافات» و«الأوهام»، فعاطفة المرأة في بيتها، أمّا في العمل فهي مثل الرجل، وهي تشغل الآن مناصب أخطر من القضاء.

لقد أسعدتني الحلقة النقاشية حين أنصفت المرأة وحين بيّنت عدالة الإسلام وإنصافه وبراءته من التمييز ضد المرأة... لكن الموروثات المجتمعية هي المسؤولة، وهنا يأتي دور القيادات الحكيمة، فهل آن للخليجيات غزو معقل القضاء؟ هذا أمل.

* كاتب قطري