لا ريب أن تمركز السلطة حول نفسها وخلودها الذاتي هو ما يقوض جذرياً إمكان صوغ استراتيجية وطنية في سورية. وهو ما يفسر الانسدادات المتواترة التي تواجه البلاد كل بضع سنوات، منذ عام 1963.تهديد، خطر، مؤامرة، عدوان، عدو، احتلال، مواجهة، حرب، انتهاك، صمود، نضال، هزيمة، نصر، خيانة، شهداء، ضحايا، دماء.. هذه بعض الكلمات الأكثر شيوعاً في الثقافة السياسية السورية. وهي تكفي لجعل الثقافة هذه قليلة الترحاب بالمطالب الديموقراطية. فهذه تطل على مناخ ذهني ونفسي مختلف: انفراج، تسوية، تفاهم، تفاوض، حوار، اتفاق، سياسة، منافسة، خلاف، خصومة، هزيمة ونصر انتخابيين.. والفارق الجوهري بين سلسلتي المدركات هاتين أن الأولى تحيل إلى كيان جمعي كبير، «الأمة» أو «الوطن» كإطار ناظم للتفكير، فيما تحيل السلسلة الثانية إلى أفراد، مواطنين، وشخصيات سياسية.
والحال أن التهديد والخطر والعدوان والحرب.. وقائع حقيقية في الحياة السياسية السورية والمشرقية منذ نشأ الكيان الإسرائيلي الذي وافق نشوؤه استقلال أكثر الدول العربية المشرقية. ما يفعله النظام هو أن يعممها ويحذف كل شيء عداها، فتبدو سورية في حالة مواجهة دائمة مع أعداء متربصين ولا شيء آخر. هذا لأن تعميم حالة الحرب مناسب لحفظ نمط ممارسة السلطة القائم المبني على الانفراد والاستئثار بالحكم. وبالتحديد هو الشرط الأنسب لنشر مناخ سيكولوجي قلق ومتوتر، تتعطل فيه الملكة النقدية عند السكان؛ هو الأنسب كذلك لبث ثقافة استنفار وارتياب حيال «الخارج» وعدم ثقة بالمختلف وتوجس دائم من «المؤامرات»؛ وهو الأنسب أخيراً لفرض نظام قانوني يقوم على الاستثناء ويقيد مبادرات الأفراد وحرياتهم ويجردهم من حمايات قانونية مستقلة. في المجمل يختزل مجتمع المحكومين إلى كتلة صخرية واحدة، مشلولة الإرادة ومسلوبة العقل، فيما تستقر المبادرة والقرار والحكم في أيدي طاقم السلطة.
وهكذا تطل الثقافة السياسية السورية على أفقين، أفق الصراع مع إسرائيل وأفق بنية النظام السياسي. وهما معاً أفقان معمران، يسبغان على سورية نكهتها «القومية» الخاصة. نكهة «الصمود» في لغة وانسداد الآفاق في لغة أخرى. وأصل الانسداد أن النظام نجح في نقل منطق الصراع الأول إلى المجال الثاني، على ما تشهد عليه حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية المخيمة على البلاد منذ أربعة عقود ونصف العقد.
وإذ نقلت الحرب «إلى داخل المدنية» وطردت السياسة بدل العكس، احتلت القضايا الكبرى، المتجهمة والبطيئة الإيقاع، الحياة العامة السياسية والثقافية، بينما طردت منها الحياة اليومية النشطة والفوضوية والسريعة الإيقاع. وبالمثل سيعزل الفردي عن المجال العام إلى دائرة الحياة الخاصة، إلى حيث هو مهدد بالتلاشي في الأهلى.
وسيفرض منطق السيادة الوطنية الواحدة تعريفاً حتى على القضايا السياسية المحلية، حيث التعدد والاختلاف هما «الدستور»، وسيبدو كل اعتراض سياسي انتهاكاً لسيادة الدولة بالذات. ومن الطبيعي أن يغدو المعارض خائناً، وسيكون قمع المعارضين واعتقالهم واجباً وطنياً، وليس مجرد «حق للدولة» على نحو ما قرر أحد إيديولوجيي النظام المُعتّقين أخيراً.
والحال ما كان يمكن للنظام أن ينجح في فرض ثقافة سياسية تماهي بين النظام والوطن، وتطابق بين السيادي والسياسي، وبين السياسة والحرب، وتجعل المعارض خائناً، لولا أن الأولوية العليا لنمط ممارسة السلطة القائم تتمحور حول دوامه وحفظ ذاته. وضمن هذه الأولوية ليست الأخطار الخارجية المحتملة إلا مسوغات ذرائعية لإدامة بنية سياسية لم تتشكل رداً عليها في الأصل، ولا توفر الآن أي رد عليها. وليس أدل على ذلك من أن حالة الطوارئ المقيمة في البلاد منذ 45 عاماً، والتي قد تكون الأقدم عالمياً، فرضت يوم 8 مارس 1963 وليس 5 يونيو 1967 أو 6 أكتوبر 1973.. أي يوم استولى حزب البعث على السلطة وليس أيام تفجرت مواجهات حربية. ومعلوم أن حالة الطوارئ لم تسعف في تحسين الأداء الحربي الذي كان كارثياً في الأولى، ومتوسطاً في الثانية. وهي أقل إسعافاً بعدُ اليوم.
ولا ريب أن تمركز السلطة حول نفسها وخلودها الذاتي هو ما يقوض جذرياً إمكان صوغ استراتيجية وطنية في سورية. وهو ما يفسر الانسدادات المتواترة التي تواجه البلاد كل بضع سنوات، منذ عام 1963.
والواقع أن تاريخ سورية كان قلقاً منذ تكونت في نهاية الحرب العالمية الأولى، بيد أنه توفرت لها آليات تغيير ذاتية بين استقلالها عام 1946 وعام 1970 الذي دشن العهد الأسدي بصفحتيه. تمثلت آليات التغيير تلك في انقلابات عسكرية أو في انتخابات ديموقراطية، ضمنت حداً معقولاً من حركية النخب وتداول السلطة. بالمقابل أفقد «الاستقرار» المقيم منذ عام 1970 البلد آليات التغيير الضرورية، فهيمن الركود وأخذت تتكرر أعطاب الآلة السياسية التي تتظاهر بانسدادات متواترة كما أشرنا.
ولإخفاء هذه الأعطاب، بل لتضييع المسؤولية عنها، تستنفر ثقافة سياسية لا تكف عن الكلام حول «أخطار داهمة» و«عدوان وشيك» و«مؤامرات متربصة».
هل من سبيل إلى تغير مهم في الثقافة السياسية هذه التي تدرك العالم والذات بلغة التهديدات والأخطار، لا بلغة المشكلات والفرص، من دون زوال الأخطار؟ لقد قلنا إن «الأخطار» ليس إلا ذرائع. يشهد على ذلك انقلاب الأدوار: ففي الداخل أخلت السياسة، أي التنافس والتفاوض السياسي، المكان لحرب تتراوح بين الاستنزاف وبين الحرب الحقيقية (1979-1982)؛ بينما خرجت العلاقة مع العدو القومي المفترض من الحرب وولجت أفق السياسة والتفاوض والتسوية.
لذلك فإن التغير الضروري في ثقافتنا السياسية يقتضي بالأحرى تغيراً في نمط ممارسة السلطة الذي «يحتاج» الأخطار والتهديدات كي يستمر؛ تغيراً يفصل بين السيادي والسياسي، ويطرد الحرب خارج حياة «المدينة» السورية، ويرد الحكم وكالة سياسية مؤقتة ومقيدة (لا دائمة ومطلقة).
والمعول على المثقفين والناشطين المستقلين أن يتولوا نقد تلك الثقافة السياسية الحربية وحساسيتها ومدركاتها الأساسية، كجزء من عملية التغيير السياسي المأمولة. أما استبطان محظورات ونواهي تلك الثقافة، على ما أظهر مثقفون وناشطون سوريون في بضعة الشهور الأخيرة، فلا يفيد في غير تأبيد أخطار الاستبداد من دون تقليص شيء من المخاطر الخارجية المفترضة.
* كاتب سوري