Ad

على الرغم من أن «جيكوب» قرأ «دائرة المعارف البريطانية» كلّها من الألف إلى الياء! وألّف إثر ذلك كتاباً بعنوان «العارف بكلّ شيء» وذيّله بعنوان فرعي: هو «مطلب متواضع لرجل يريد أن يكون أذكى شخص في العالم»، فإنه هزم في أكثر من موقف. فالمرء مهما تدرّع بالعلم، فإنه يظلّ بحاجة إلى التعلّم دائماً.

بعد تخرّجه في الجامعة، عمل الأميركي (أي. جي. جيكوب) محرّراً في مجلّة فنيّة تُعنى بشؤون السينما والتلفزيون والموسيقى، وعلى مرّ السنوات اكتظّ ذهنه بكلّ شاردة وواردة من أخبار الفنانين والفنانات، وإلى حدّ التوقف ومساءلة نفسه عمّا آل إليه من طالب مثقف وذكي إلى مجرّد كيس ممتلئ بالقش.

وإذ تنبّه، وهو في منتصف الثلاثينيات، إلى أنه بات يعرف عن (هومر سيمبسون) بطل المسلسل الكارتوني الشهير أكثر ممّا يعرف عن (هومر) الشاعر الإغريقي المعروف، أدرك أنه ماض الى وهدة الجهل المطلق.

وعند هذه النقطة قرّر بحسم أن يشرع في عملية تنظيف لدماغه من تفاهات عمله، وأن يعيد تأثيثه بأكبر قدر من الحقائق والمعلومات في هذا العالم.

ماذا فعل؟

قرّر أن يقرأ «دائرة المعارف البريطانية» كلّها من الألف الى الياء! وبعناد عجيب أمكنه، فعلا، أن يختمها في غضون عام واحد... أي أنه، في هذه المدّة، قرأ بعناية وتركيز اثنين وثلاثين مجلّداً، تضمّ ثلاثة وثلاثين ألف صفحة، وخمسة وستين ألف مادّة، وأربعة وعشرين ألف لوحة، وأربعة وأربعين مليون كلمة!

ولمّا كانت الأمم المتحدة قد عرّفت «الكتاب» بكونه النص الذي يتألف من تسع وأربعين صحفة على الأقل، فإن «جيكوب» وفقاً لهذا التعريف قد قرأ 673 كتاباً في ذلك العام، أي بواقع كتابين تقريباً في اليوم الواحد!

عن تجربته المدهشة هذه ألّف «جيكوب» كتاباً بعنوان «العارف بكلّ شيء» ذيّله بعنوان فرعي يقول: «مطلب متواضع لرجل يريد أن يكون أذكى شخص في العالم».

وكما يوحى عنوان الكتاب، فقد تضمّن قدراً كبيراً من المعلومات المدهشة التي تؤهله، من دون شك، ليكون واحداً من أكثر الكتب مبيعاً، وتقدم لنا مؤلفه كاتباً جديداً من نمط «بيل برايسون» صاحب الكتب الغرائبية المشهورة مثل «صنع في أميركا» و«تاريخ كلّ شيء تقريبا»... لكنّ روح الفكاهة والسخرية التي عرض بها قصّته وعلّق على المعلومات التي أوردها في الكتاب، تكشف -بعيداً عن المعارف المكتسبة- عن موهبة «جيكوب» الأصيلة والعالية في ميدان الكتابة الساخرة.

على مرّ صفحات الكتاب يسخر «جيكوب» من كلّ شيء ومن كلّ شخص، وبخاصة من نفسه، حيث ينبئنا بأنه منذ بدئه بقراءة مادة الحرف الأوّل من «الإنسيكلوبيديا» صار يغتنم كلّ فرصة للمباهاة بمعلوماته، وإذا لم يجد مثل هذه الفرصة فإنه يخترعها، وهو إذ يروي لنا قصص انتصارته في بعض المناسبات، لا يتورّع عن ذكر انتكاساته وخيباته وهزائمه المذّلة في مناسبات أخرى.

وفي هذا السياق نعلم أن «جيكوب» ليس نسيجاً وحده في الغرابة، فهناك أبوه المهندس المتقاعد الذي ألّف سبعة وعشرين كتاباً في مجال اختصاصه، وهي كلّها تمتاز بأن المتن فيها لا يتعدّى ربع الصفحة، فيما يلتهم الهامش ثلاثة أرباعها، الأمر الذي يستغرب معه «جيكوب» من عدم دخول كتب أبيه موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية، باعتبارها الكتب ذات الهوامش الأطول في التاريخ!

وهناك أيضا ابن أخته «دوغلاس» الذي لا يتعدّى الحادية عشرة من عمره، والذي يحتفظ في جيبه دائماً بكتيّب لشوارد القواعد اللغوية، بحيث يقف في بلعوم أيّ شخص وفي أي مناسبة، مصحّحاً له العبارات الخارجة عن القواعد، ولم تنج من تصحيحاته حتى أستاذته في المدرسة!

وبين هذين القوسين «الأب وابن الأخت» كثيراً ما وقع «جيكوب» في حرج الهزيمة من غير احتساب، برغم تدرّعه بكل معلومات الدنيا!

ففي إحدى الجلسات العائلية التي حضرها هذا «الولد النحو» حاول «جيكوب» أن يقوم بضربة استباقية، تلجم ابن أخته عن أيّ هجوم، فقال إنّ (gh) في كلمة (Light) في الإنكليزية القديمة لم تكن صامته، بل كانت تُنطَق، ومازال بعض أهالي أسكتلندا ينطقونها (Licht).

غير أنّ أحداً من الجالسين لم يُبدِ دهشة من هذه المعلومة، خاصّة ابن الأخت الذي انبرى لسؤال خاله:

- ما أطول كلمة في اللّغة الإنكليزية؟

ابتهج «جيكوب» بهذا السؤال، وأجاب بسرعة:

- إنها «smiles» ذلك لأن هناك «Mile» أي «ميل» بين الحرفين الأول والأخير.

لكنّ «دوغلاس» لم يتراجع أمام هذه الإجابة الذّكية، بل قال متململاً:

ما رأيك بهذه الكلمة؟

وتهجّى له كلمة تتألف من خمسة وأربعين حرفاً، مع أن من الصعب جداً إن لم يكن من المستحيل نطقها. ثم شرحها قائلاً: إنّها اسم المرض الذي يسبّبه غبار ثاني أكسيد السليكون الناشىء عن انفجار البراكين!

وعلى ذلك علّق «جيكوب» بأن المعركة انتهت في بدايتها، وهو يعني أنّه هزم هزيمة ساحقة.

وفي أحد الأعياد، التأم شمل العائلة في بيت أبوي «جيكوب»، وكان من بين الحاضرين أخته وزوجها «بيريل» الذي يطابق اسمه اسم أحد الأحجار الكريمة.

وعند تبادل الهدايا قدّم «جيكوب» هدية لزوج أخته مرفقة ببطاقة كتب فيها: الى عزيزي: Be3 A12 (sio3)6، وعندما قرأها الرّجل تساءل: أهذه البطاقة لي؟! أجاب «جيكوب» مزهواً: نعم... والمكتوب فيها هو الرّمز الكيميائي لحجر البيريل الكريم!

ثم واصل قائلاً: إنّ واحدة من أكبر قطع هذا المعدن النّفيس وجدت في البرازيل، وكان وزنها مئتي طن... وعلى هذا فإنك بالمقارنة معها... مجرّد شيء ضئيل جدّاً!

ولم يكد «جيكوب» يستكمل ارتشاف حلاوة زهوه بمعلوماته، حتى عاجله أبوه قائلاً:

- عندي لك معلومة جيّدة... أنت تعرف سرعة الضوء، أليس كذلك؟

أجاب «جيكوب» بلا تردد:

- نعم... إنها 186 ألف ميل في الثانية.

لكنّ أباه قاطعه: نعم هذا صحيح، لكن هل تعرف كم سرعة الضوء بالقامة في مدّة نصف شهر؟

وقبل أن يخرج «جيكوب» من ذهوله أخبره أبوه بأنه قد حسب هذه السرعة بالقامة في هذه المدّة، وعلى هذا فإنه يعتبر نفسه الشخص الوحيد في العالم الذي يعرف هذه المعلومة. ثم حدّدها له قائلا: إنها: (1014X1.98)!

لقد تقبّل «جيكوب» هذه النكبة صاغراً، متذرّعاً بما تفرضه روح السّماحة في الأعياد المقدّسة! ولعلّه أراد بذلك أن يقول لنا إنّ الحقائق والمعلومات أضخم من أن تستوعبها أكبر دائرة للمعارف، وإنّ المرء مهما تدرّع بالعلم، يظلّ بحاجة للتعلّم دائماً.

ليست ضخامة المعلومات هي كلّ شيء في الحياة، بل العبرة تكمن في الاستفادة بأيّ قدر منها عند وضعه في المكان المناسب.

وربّما أمكننا استخلاص هذه الحكمة من المعلومةالتالية التي وردت في الكتاب:

إن أكبر جرس في العالم قد تمّ بناؤه في موسكو عام 1733 ويقدّر وزنه بنحو مئتي ألف كيلوغرام، لكنّ ذلك الجرس لم تصدر عنه حتى رنّة واحدة... فقد تكسّر، خلال صنعه، بفعل حرارة النّار!

كلّ تلك الجهود والتكاليف والتخطيطات والآمال تحوّلت في لحظة الى لا شيء... وغدت مجرّد كومة من السكراب تنتصب في روسيا كرمز للفشل. إنّ ذلك الجرس الضخم بقي مجرّد عملاق كسيح وأخرس، لكنّ الرّشاقة وفصاحة «الرّنين» كانتا من نصيب الأجراس الأصغر.

ألا تقول لنا هذه الحكاية شيئاً؟

* شاعر عراقي