أتى حين من الدهر على دولة الخلافة العباسية، كانت فيه خاضعة تماما لنفوذ الأتراك الذين كانوا يمسكون بزمام الأمور، ويديرون الدولة بقوتهم ونفوذهم، ويستبدون بالأمر دون الخلفاء العباسيين، وعندما تولى المعتمد على الله أحمد بن المتوكل بعد خلع الخليفة «المهتدي بالله»، ظهرت دعوة جادة إلى إعادة سلطان الخليفة العباسي إلى ما كان عليه، وشاءت الأقدار أن يكون ذلك على يد الخليفة المعتمد الذي حاول أن يمسك بزمام الأمور، وساعده على ذلك أنه استعان بأخيه «الموفق» الذي ولّاه قيادة الجيش. وكان الموفق يتمتع بشخصية قوية ومقدرة عسكرية ممتازة وهمة عالية وعزيمة لا تلين؛ فسيطر على زمام الأمور السياسية والإدارية، وأصبح الخليفة لا سلطان له أمام نفوذ أخيه. وكان المعتمد وأخوه الموفق طلحة كالشريكين في الخلافة: للمعتمد الخطبة والسكة والتسمي بأمير المؤمنين، ولأخيه طلحة الأمر والنهي وقيادة العسكر ومحاربة الأعداء ومرابطة الثغور وترتيب الوزراء والأمراء».

Ad

في هذه الفترة الحرجة التي كانت تمر بها الخلافة العباسية قامت ثورة كبرى عرفت باسم ثورة الزنج، هددت كيان الدولة العباسية أكثر مما هددها الأتراك، وهؤلاء الزنج كانوا جماعات من العبيد السود المجلوبين من أفريقيا الشرقية للعمل في استصلاح الأراضي الواقعة بين مدينتي البصرة وواسط، وكان عددهم كبيرا يُعدّ بالألوف ويعملون في جماعات، ويحيون حياة سيئة ولا يتقاضون أجورا يومية ولا يتجاوز قوتهم اليومي قليلا من الطحين والتمر والسويق.

استغل «علي بن محمد» هذه الأوضاع وكان رجلا طموحا مغامرا فنجح في استمالة الزنج إليه، مستغلا أوضاعهم السيئة فمنّاهم بالتحرر من العبودية وتمكينهم من الوصول إلى السلطة، ثم اشتط في دعوته فادعى صفات النبوة، وأعلن أنه مرسل من الله لإنقاذ العبيد البائسين، وانتحل نسباً إلى آل البيت.

نجح صاحب الزنج في فترة قصيرة (255-261هـ = 869-875م) من أن يسيطر على البصرة وما حولها، بعد نجاحه في هزيمة جيش الدولة، ثم امتد نفوذه ليشمل الأهواز وعبادان وواسط، وكانت سياسته تجنح إلى العنف والإرهاب وإراقة الدماء؛ فدمر المدن التي احتلها وأباد كثيرا من أهلها وعاث فيها فسادا، والذي فعله بالبصرة خير دليل على ذلك؛ حيث ذكر المؤرخون أن الزنج قتلوا أكثر من 300 ألف إنسان في البصرة وحدها، وأسروا عددا كبيرا من النساء والأطفال.

بعد تولي المعتمد على الله منصب الخلافة عهد إلى أخيه الموفق بمهمة القضاء على هذه الفتنة، قبل أن يستفحل خطرها؛ فخرج من بغداد إلى واسط وهزم فريقا كبيرا من الزنج، وتوالت انتصاراته حتى أجلاهم عن الأهواز، وحاصر مدينتهم «المختارة»، وبنى مدينة بإزائها تسمى الموفقية نسبه إليه، وجعلها معسكرا دائمًا له ولجيشه. وفي الوقت نفسه ضرب حصارا اقتصاديا على المختارة؛ لمنع وصول المؤن إليها حتى نجح في اقتحام المدينة والاستيلاء عليها.

وبعد القضاء على الحركة الثائرة، أصدر الموفق بيانا أعلن فيه انتهاء الاضطرابات والفوضى بعد حرب دامت أكثر من 14 سنة ودعا سكان هذه المناطق الى الرجوع إلى مدنهم وقراهم.