Ad

في يوم الجمعة الماضي طلب محمد من والدته أن توقظه قبل موعد الصلاة بمدة تمكنه من الاستحمام بالماء والعطر، ومن ثم ارتداء ملابسه النظيفة الأنيقة المبخرة المعطرة، على الرغم من أنه معفى من الصلاة، لكنه يحرص عليها بانتظام، ويجد فيها قرة عينه! لكن الموت فاجأه على حين غرة.

* اعتدنا نحن الكتاب على تأبين نجوم المجتمع وأعلامه، حالما يغادرون الدنيا، ونادراً ما يحظى إنسان بسيط «بهلول» من عامة خلق الله بكلمة طيبة، طالعة من «جوه» القلب، تقال في حقه! فالمواطن «محمد حمد اللوغاني» واحد من فئة ذوي الاحتياجات الخاصة، وفي الأربعينيات من عمره، صادقته منذ أن صادفته ليلة زواجي الأخير منذ 35 سنة، من خالته السيدة «إقبال علي الدعيج»، وقد أطلق عليّ ليلتها اسماً حركيا هو: «العروس» غير عابئ بمحاولات ذويه «تصويب» المفردة إلى «العريس» كما هو وارد في لهجتنا العربية! ولا حاجة بي إلى القول إن العروس أصوب في اللغة العربية من العريس، لأن الأولى تخص البعل والزوجة معا. وكنت واعدته على الصعلكة في قاهرة المعز التي يعشقها وأهلها من دون حدود! لكن الأجل فاجأه في القاهرة مسقط قلبه وحبه على حين غرة، ويبدو أن زاويتي، والمساحة المخصصة لي لتدبيج مقالتي صارت هذه الأيام بمنزلة دار عزاء و«حسينية» وصفحة وفيات! ولابأس في ذلك لأن الموت العبثي المجاني بات من أهم «عاداتنا وتقاليدنا» في الحياة اليومية العربية، لذا يُعدّ «محمد» محظوظاً لكونه مات في فراش المرض، لاسيما أن حرب الشوارع في الكويت، في سبيلها إلى أن تحيل المئات والآلاف من الأهالي والسكان إلى فئة ذوي الاحتياجات بشتى تجلياتها، وقد يأتي يوم يبزون فيه عدد هذه الفئة، ويزيدون عليها!!

في يوم الجمعة الماضي طلب من والدته أن توقظه قبل موعد الصلاة بمدة تمكنه من الاستحمام بالماء والعطر، ومن ثم ارتداء ملابسه النظيفة الأنيقة المبخرة المعطرة، على الرغم من أنه معفى من الصلاة، لكنه يحرص عليها بانتظام، ويجد فيها قرة عينه!

* ولاجدال في أن أولادنا وأحفادنا وإخوتنا من ذوي الاحتياجات الخاصة يلقون عناية تربوية اجتماعية من قبل إدارة المعاهد الخاصة والجمعية الكويتية لذوي الاحتياجات الخاصة، إلى حد أن ديرتنا باتت رائدة في مجال تأهيلهم وتربيتهم، إلا أن دور الوالدين خاصة، والأسرة عامة، يردف فعل هاتين المؤسستين ومن دونه وغيابه يمكن أن يقوض دورهما أو يهمشه على أحسن تقدير، من هنا أحسب أن «محمداً» يعد محظوظاً لأن والديه احتضناه «بعلاته» واستقبلاه كما هو، بقضه وقضيضه، من دون أن تستحوذ عليهما مشاعر الإحباط والقنوط واليأس وكل المشاعر السلبية البائسة التي قد تصدر عن بعض الأسر، لأسباب شتى لا مجال في هذه المساحة إلى الخوض فيها بإسهاب، حسبنا القول بحاجته -بادئ ذي بدء- إلى التواصل معه كإنسان من دون إفراط ولا تفريط، وبمنأى عن التهويل والتهوين! فالوالدان هما اللذان يتحملان عبء تربيته المضمرة بالصبر الجميل إلى ما شاء الله.

وأعترف بأن هذه المهمة صعبة وعصيبة، لكنها ليست مستحيلة، لاسيما إذا كان «المعاق» يتحلى بحضور إنساني تحرص الناس على ممارسته لحياته اليومية بمنأى عن المنغصات التي تكدر صفو حياته القاسية من جراء نظرة المجتمع إليهم، والمدججة بالسخرية الفجة، والتعالي الأجوف وغير ذلك من ممارسات «شينة» غير سوية! ومن هنا أيضا يكمن حب ولدي وصديقي الحميم محمد اللوغاني لمصر المحروسة، وقاهرة المعز وأهلها لكونهم يتعاملون معه -وأمثاله- بسلوك إنساني حضاري متمخض من القيم الإسلامية المتكئة على أن المفاضلة بين البشر تنهض على تقوى الله سبحانه فقط.

* فالشعب المصري يراه إنسانا يستأهل الحب والمحبة بعفوية إنسانية ريانة بالممارسة السوية المتبدية في التواصل معه كإنسان عادي يستوجب الاحتواء الدافئ الذي يلج صدره، ويبهجه حيثما كان، بل أزعم أنهم يعاملونه ويحتفون به أحسن وأكثر من الإنسان السوي! فتراهم يحيونه بقولة: أهلاً يا بركة، وينادونه بالمبروك، ويحسبونه من خلق الله سكان الجنة وأحباب الرحمن جل وعلا! إن هذه الثقافة الإنسانية الحضارية هي أحوج ما يحتاجه «محمد» وأقرانه، وهي ثقافة حرية بالتأسي والتقليد والعدوى! إنها مبادرة جيدة أن يكون لهم مواقف، خاصة لمركباتهم، لكن الأجمل هو أن يحظوا بموقع في الوجدان تليق بمحنتهم، وبسلوك المجتمع السوي! وأحسب أن ذوي الاحتياجات الخاصة يحتاجون إلى تشريعات وقوانين تحفظ لهم إنسانيتهم، وتدرأ عنهم الممارسات العدوانية التي تستهدفهم من قبل «أسوياء» المجتمع. كأن يكونوا -مثلاً- موضوعاً للهزء والسخرية بهم في السينما والتلفزيون والمسرح، سعياً إلى إثارة الضحك عليهم.

إن الدكتورة هيلين كيلر الصماء البكماء العمياء تعد المثل الأعلى لهذه الفئة لكونها تمكنت بفضل إرادتها الصلبة، ومعاونة والديها وغيرهما، من تجاوز محنة الإعاقة، والقدرة على التواصل مع العالم كله، وإثارة إعجابه وتقديره لهذه الإنسانة المدهشة بحق وامتياز، الأمر الذي يشي بإمكان تخطي معضلة الإعاقة، إذا توافر لذوي الاحتياجات الظروف الصحية الساعية إلى إعادة تأهليهم للاندماج في المجتمع والتواصل معهم...

رحم الله «محمدا» ولعل لسان حاله يقول ما قاله المعري:

ضجعة الموت رقدة يستريح

الجسم فيها والعيش مثل السهاد