Ad

العراقيون الآن يتحسسون رؤوسهم، فهل ستبقى هذه الرؤوس مرفوعة رفعة الحداثة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المبتغاة، أم أنها سوف تُنكّس من جديد تحت سياط صيحات رجال المؤسسات الدينية المتشنجة الذين وجدوا في غياب الدكتاتورية المنهارة، فرصة لهم لفرض دكتاتورية دينية أقسى وأعنف؟

منذ فجر التاسع من أبريل 2003، ونحن نراقب ونلاحظ مدى سلطان المؤسسات الدينية العراقية على مجريات السياسة العراقية الجديدة في الداخل والخارج. وكنا نخشى أن يمتد سلطان المؤسسات الدينية العراقية على أجهزة الدولة العراقية الحالية، ويستبدل العراقيون استبداد «البساطير» باستبداد العمائم على مختلف ألوانها وأشكالها، ليصبح الوضع في العراق كما يقول أهل الشام (تيتي تيتي.. زي ما رحتي زي ما جيتي). ولعل نقطة الضعف هنا، تكمن في أن الدولة العراقية الحالية تضم بين جنباتها من ضمن ما تضم من أطياف سياسية، ممثلين عن أحزاب دينية متشددة، تريد أن تنتهز قيام العراق الجديد، لكي تحقق ما كانت تطمح وتطمع أن تحققه في ظل دكتاتورية البساطير السابقة.

العراق وأفغانستان

على الأحزاب الدينية المختلفة والمتمثلة في الدولة العراقية الآن أن تعلم، أن العراق لن يتخلّى عن علمانيته التي أساء اليها إساءة كبيرة حكم الطاغية السابق. وأن انهيار حكم الطاغية السابق، لا يعني أن يتمَّ حكم العراق الآن حكماً دينياً على طريقة حكم «طالبان» المنهار في أفغانستان. فأفغانستان التي كانت مثالاً عظيماً للتخلف والجهل وحكم القرون الوسطى، استطاعت بفضل نخبها الجديدة أن تضع دستوراً للبلاد يستبعد الكثير من الأحكام الدينية التي لم تعد تصلح للقرن الحادي والعشرين والتي تعتبرها المؤسسات الدينية في العالم لعربي عابرة للتاريخ، وتصلح لكل زمان ومكان.

ولا يخفى علينا ما تضمنه الدستور الأفغاني بعد زوال حكم طالبان، من حقوق للمرأة، وهي حقوق تعتبر تحريراً كاملاً للمرأة من قوانين القرون الوسطى التي كانت تطبق على نساء تلك القرون بظروفهن الاجتماعية والاقتصادية المُعينة، والتي لم تعد صالحة لنساء القرن الحادي والعشرون من العرب والعجم. فالمرأة في القرن السابع والثامن الميلادي ليست هي امرأة القرن الحادي والعشرين قطعاً.

لكي لا يندم العراقيون على ما حصل

العراقيون الآن يتحسسون رؤوسهم، فهل ستبقى هذه الرؤوس مرفوعة رفعة الحداثة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المبتغاة، أما أنها سوف تُنكّس من جديد تحت سياط صيحات رجال المؤسسات الدينية المتشنجة الذين وجدوا في غياب الدكتاتورية المنهارة، فرصة لهم لفرض دكتاتورية دينية أقسى وأعنف وأشد ظلماً من الدكتاتورية المنهارة.

ويكفي العراقيون الآن ما يواجهونه من عذاب الحياة اليومية في العراق نتيجة للفلتان الأمني، والإرهاب المنتشر، ونقص الخدمات العامة، والفساد المالي، وخيبة الأمل الكبيرة في المؤسسات والنخب السياسية العراقية، التي برهنت طوال السنوات الماضية منذ 2003 حتى الآن، على عدم قدرتها على تحمل مسؤولية الحكم في العراق.

العراقيون لا يريدون الندم أو التحسر، ولو لثانية واحدة، على انهيار الدكتاتورية العراقية السابقة، نتيجة لما يواجهونه من دكتاتورية دينية عراقية عاتية، تمثلت قبل مدة، في إلغاء قانون الأحوال المدنية، الذي كان سائداً في العراق منذ الثلاثينيات حتى الآن، وكان من المفترض أن يتم تغييره إلى قانون أكثر تقدماً وتطوراً وحداثة من هذا القانون، لا أن يتم إلغاء هذا القانون واستبداله بقوانين صدرت قبل 1500 سنة لنساء القرنين السابع والثامن الميلاديين، وليست لنساء القرن الحادي والعشرين!

كما تمثلت سيطرة الدكتاتورية الدينية على الدولة العراقية الجديدة من قبل، حين التزمت الدولة الصمت المخيف أمام ظاهرة فرض الحجاب بمختلف الأساليب على المرأة العراقية، بالضغط والتهديد والأذى، وحتى فرضه على المسيحيات.

كما تمثلت سيطرة الدكتاتورية الدينية على الدولة العراقية حين صمتت الدولة صمت أهل الكهف في السابق، عن ظاهرة التنكيل بالمسيحيين، خصوصاً في البصرة، على أيدي متطرفين إسلاميين جهلة، متأثرين بفتاوى أئمة جوامع مهووسين متعصبين، ومنهم من ينظر الى ما وراء الحدود الشرقية.

فما معنى كل هذا؟

الحداثة التي يريدها العراق

إن الحداثة التي يتطلع إليها العراقيون - من مختلف الطوائف والأعراق- في العراق الجديد ليست الحداثة السياسية المتمثلة فقط بدستور جديد، وانتخابات جديدة، وصناديق اقتراع، وحرية إعلام، وحرية تشكيل الأحزاب، وغير ذلك. إن كل هذا لا يكفي ثمناً للتضحية الكبيرة التي قام بها الشعب العراقي، ومن وقفوا في ظهر الشعب العراقي، من حلفاء ومساندين وداعمين.

إن ثمن التضحية الكبرى التي قام بها كل هؤلاء هو الحداثة الشاملة الكلية التي لا تتجزأ للعراق الجديد بحلاوتها ومرارتها، والتي تتمثل أول ما تتمثل في أن كل كلمة وكل جملة وكل سطر في قوانين العراق الجديد من سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية يجب أن تُمثل تمثيلاً تاماً العراق الجديد في القرن الحادي والعشرين، الذي هو ليس جزءاً من العالم العربي المتخلف، ولكنه جزء لا يتجزأ من المجتمع الدولي الحديث والمعاصر.

وفي ظني أن العراقيين والعراقيات لن يقبلوا بأقل من هذا، وإن قبلوا بأقل من هذا فسوف يترحمون هم وأبناؤهم وأحفادهم، سراً وجهراً، غداً على الدكتاتورية المنهارة التي كانت أكثر انفتاحاً اجتماعياً مما تدعو اليه الدولة العراقية التي تخلصت من الدكتاتورية السياسية السابقة، ووقعت – للأسف - تحت ضغط الدكتاتورية الدينية الجديدة. وتلك هي مصيبة المصائب، وخسارة الخسائر الكبرى.

هل استبدلنا الدكتاتورية السياسية بالدينية؟

إن مسؤولية أميركا وبريطانيا وبقية الحلفاء في العراق الآن مسؤولية كبيرة. فهذه الجيوش الجرارة التي اقتلعت الدكتاتورية العراقية، وهذه الدماء الغزيرة من العراقيين ومن حلفاء العراقيين، وهذه الأموال الطائلة التي صُرفت والتي سوف تُصرف مستقبلاً... هذا الثمن الغالي جداً، هل تكون نتيجته أن نعود بالعراق إلى العمل بأحكام القرون الوسطى الاجتماعية؟

وهل تكون نتيجة هذا الثمن الغالي جداً والنادر في تاريخ الشعوب الحديث أن نضع مقدرات العراق وقوانينه بأيدي رجال المؤسسات الدينية الذين مازالوا يخاطبون المجتمع الدولي بخطاب القرون الوسطى، ولا يلتزمون حدودهم في عدم التدخل بالسياسة والاكتفاء بالدعوة إلى الهداية الروحية، من دون زج الدين المُقدّس بفن السياسة المُنجّس، ومن دون زج الدين الثابت بالسياسة المتحولة، ومن دون زج تعاليم السماء الروحية بألاعيب السياسة الأرضية.

إذاً، ماذا فعلنا بالعراق عندما نستبدل بساطير الدكتاتورية بعمائم المؤسسات الدينية؟ وماذا فعلنا عندما نستبدل الدكتاتورية السياسية بالدكتاتورية الدينية؟

*كاتب أردني