Ad

يقف الإمام محمد عبده في مقدمة المجددين في الفقه الإسلامي في العصر الحديث، ويعد من أبرز دعاة الإصلاح وأعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة؛ فقد ساهمت أفكاره ورؤاه في تحرير العقل العربي من الجمود الذي أصابه لعدة قرون، وفي بعث الروح الوطنية ومسايرة حركة العلم والتطور.

 

ظهرت بوادر التمرد داخل محمد عبده مبكرا، حينما الحقه والده وهو في سن الخامسة عشرة بالجامع الاحمدي ليدرس علوم الفقه واللغة، لكنه لم يستطع أن يتجاوب مع المقررات الدراسية أو نظم الدراسة العقيمة التي كانت تعتمد على المتون والشروح التي تخلو من التقنين البسيط للعلوم، وتفتقد الوضوح في العرض، فقرر أن يترك الدراسة ويتجه إلى الزراعة... ولكن أباه أصر على تعليمه، فلما وجد من أبيه العزم على ما أراد وعدم التحول عما رسمه له، هرب إلى بلدة قريبة فيها بعض أخوال أبيه، وهناك التقى بالشيخ الصوفي درويش خضر- خال أبيه- الذي كان له أكبر الأثر في تغيير مجرى حياته. واستطاع الشيخ درويش أن يعيد الثقة إلى محمد عبده، بعد أن شرح له بأسلوب لطيف ما استعصى عليه من تلك المتون المغلقة، فأزال طلاسم وتعقيدات تلك المتون القديمة، وقرّبها إلى عقله بسهولة ويسر.

وعاد محمد عبده إلى الجامع الأحمدي، وقد أصبح أكثر ثقة بنفسه، وصار شيخا ومعلما لزملائه يشرح لهم ما غمض عليهم قبل موعد شرح الأستاذ. انتقل محمد عبده من الجامع الأحمدي إلى الجامع الأزهر، واستمر محمد عبده يدرس فيه اثني عشر عاما، حتى نال شهادة العالمية سنة (1294هـ = 1877م).

تأثر الشيخ محمد عبده بعدد من الرجال الذين أثروا حياته وأثّروا فيها، وكان أولهم الشيخ درويش خضر، وبعده اتصل محمد عبده بالرجل الثاني الذي كان له أثر كبير في توجيهه إلى العلوم العصرية، وهو الشيخ حسن الطويل الذي كانت له معرفة بالرياضيات والفلسفة، وقد حركت دروس الشيخ حسن الطويل كوامن نفس محمد عبده، ودفعته إلى البحث عن المزيد، وقد وجد ضالته أخيرًا عند السيد جمال الدين الأفغاني.

كان الأفغاني يفيض ذكاء وحيوية ونشاطا، فهو دائم الحركة، دائم التفكير، دائم النقد، دائم العطاء، وكان محركا للعديد من ثورات الطلاب ومظاهراتهم؛ فقد وهب نفسه لهدف أسمى وغاية نبيلة هي إيقاظ الدولة الإسلامية من سُباتها، والنهوض بها وبعد أن نال محمد عبده شهادة العالمية من الأزهر، انطلق ليبدأ رحلة كفاحه من أجل العلم والتنوير، فلم يكتف بالتدريس في الأزهر، وإنما درّس في «دار العلوم» وفي مدرسة الألسن، كما اتصل بالحياة العامة.

واتصل بعدد من الجرائد، فكان يكتب في «الأهرام» مقالات في الإصلاح الخلقي والاجتماعي، فكتب مقالا في «الكتابة والقلم»، وآخر في «المدبر الإنساني والمدبر العقلي والروحاني»، وثالثا في «العلوم العقلية والدعوة إلى العلوم العصرية».

وعندما اشتغلت الثورة العرابية التفّ حولها كثير من الوطنيين، وانضم إليهم الكثير من الأعيان وعلماء الأزهر، واجتمعت حولها جموع الشعب وطوائفه المختلفة، وامتزجت مطالب جنود الجيش بمطالب جموع الشعب والأعيان والعلماء، وانطلقت الصحف تشعل لهيب الثورة، وتثير الجموع، وكان عبد الله النديم من أكثر الخطباء تحريضا على الثورة.

وبالرغم من أن محمد عبده لم يكن من المتحمسين للتغيير الثوري السريع فإنه انضم إلى المؤيدين للثورة، وأصبح واحدا من قادتها وزعمائها، فتم القبض عليه، وأودع السجن ثلاثة أشهر، ثم حُكم عليه بالنفي لمدة ثلاث سنوات.

انتقل محمد عبده إلى بيروت سنة (1300هـ = 1883م)؛ حيث أقام بها نحو عام، ثم ما لبث أن دعاه أستاذه الأفغاني الى السفر إليه في باريس، حيث منفاه، واستجاب محمد عبده لدعوة أستاذه، حيث اشتركا معا في إصدار مجلة العروة الوثقى التي صدرت من غرفة صغيرة متواضعة فوق سطح أحد منازل باريس؛ حيث كانت تلك الغرفة هي مقر التحرير وملتقى الأتباع والمؤيدين.

لقد أزعجت تلك المجلة الإنكليز، وأثارت مخاوفهم كما أثارت هواجس الفرنسيين، وكان الإمام محمد عبده وأستاذه وعدد قليل من معاونيهم يحملون عبء تحرير المجلة، وتمهيد السبل لها للوصول إلى أرجاء العالم الإسلامي، وكانت مقالات الإمام تتسم في هذه الفترة بالقوة، والدعوة إلى مناهضة الاستعمار، والتحرر من الاحتلال الأجنبي بكل صوره وأشكاله. واستطاع الإنكليز إخماد صوت «العروة الوثقى» الذي أضجّ مضاجعهم وأقلق مسامعهم، فاحتجبت بعد أن صدر منها ثمانية عشر عددا في ثمانية أشهر، وعاد الشيخ محمد عبده إلى بيروت سنة (1302هـ = 1885م) بعد أن تهاوى كل شيء من حوله، فقد فشلت الثورة العرابية، وأغلقت مجلة العروة الوثقى، وابتعد عن أستاذه الذي رحل بدوره إلى «فارس».

وبالرغم من أن مدة نفيه التي حكم عليه بها كانت ثلاث سنوات فإنه ظل في منفاه نحو ست سنوات، وبعد صدر العفو عن محمد عبده وآن له أن يعود إلى أرض الكنانة.

كان كل شيء قد أصبح في يد الإنكليز، وكان أهم أهداف الشيخ محمد عبده إصلاح العقيدة، والعمل على إصلاح المؤسسات الإسلامية كالأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية وكان الشيخ يأمل أن يكون ناظرًا لدار العلوم أو أستاذا فيها بعد عودته إلى مصر، ولكن الخديوي والإنكليز كان لهما رأي آخر؛ ولذلك فقد تم تعيينه قاضيا أهليا في محكمة بنها، ثم الزقازيق، ثم عابدين، ثم عين مستشارا في محكمة الاستئناف.

وعندما تُوفي الخديوي توفيق وتولي الخديوي عباس، الذي كان متحمسا على مناهضة الاحتلال، سعى الشيخ محمد عبده إلى توثيق صلته به، واستطاع إقناعه بخطته الإصلاحية التي تقوم على إصلاح الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية وصدر قرار بتشكيل مجلس إدارة الأزهر برئاسة الشيخ حسونة النواوي، وكان الشيخ محمد عبده عضوا فيه، وهكذا أتيحت الفرصة للشيخ محمد عبده لتحقيق حلمه بإصلاح الأزهر، وهو الحلم الذي تمناه منذ أن وطئت قدماه ساحته لأول مرة.

وتحول الموقف إلى عداء سافر من الخديوي، فبدأت المؤامرات والدسائس تُحاك ضد الإمام الشيخ، وبدأت الصحف تشن هجوما قاسيا عليه لتحقيره والنيل منه، ولجأ خصومه إلى العديد من الطرق الرخيصة والأساليب المبتذلة لتجريحه وتشويه صورته أمام العامة؛ حتى اضطر إلى الاستقالة من الأزهر وإثر ذلك أحس الشيخ بالمرض، واشتدت عليه وطأة المرض، الذي تبيّن أنه السرطان، وما لبث أن تُوفي بالإسكندرية عام 1905م عن عمر بلغ ستة وخمسين عاما.