ظلّت قضية اختطاف المهدي بن بركة لغزاً مستمراً منذ اختفائه قسرياً في باريس عام 1965 حتى الآن، ورغم محاولات إجلاء مصيره إلاّ أن الغموض والإبهام مازالا يكتنفان قضيته، لاسيما أن السمة المميزة لذلك الحادث المثير، كانت أقرب إلى التكهن و«الاستنباط» والموقف السياسي منها إلى الوقائع والحيثيات والقرائن والحكم القضائي.

Ad

يمكن اعتبار مسألة الاختفاء القسري للمهدي بن بركة إحدى الجرائم السياسية الكبرى في القرن العشرين، ولعلها تُستذكر كلما جرى الحديث عن جرائم الاختفاء والاختطاف والتغييب، لاسيما بعد اختفاء السيد موسى الصدر قسرياً بعد زيارته إلى الجماهيرية الليبية عام 1979 ومنصور الكيخيا بعد حضوره اجتماع الجمعية العمومية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان عام 1993 في القاهرة، والاختفاء القسري للدكتور صفاء الحافظ والدكتور صباح الدرة وعايدة ياسين ودارا توفيق في مطلع الثمانينيات في بغداد، واختفاء ناصر السعيد في بيروت في فترة مقاربة.

ولعل مناسبة الحديث عن المهدي بن بركة يعود أولاً إلى ندوة حقوقية في الرباط انعقدت أخيراً، وعلى هامشها أثار الكاتب طائفة من الأسئلة حول اختفائه والظروف والملابسات التي رافقته، خصوصاً أن ناشطة حقوقية تقوم حالياً بإعادة قراءة وتوثيق ما كتب عن حادث الاختفاء القسري لاسيما بعد مراجعة ملفات استخبارية عديدة، وثانياً إلى صدور كتاب جديد ومهم لاسيما في مجال التوثيق، يسعى إلى تسليط ضوء جديد على جريمة اختطاف المهدي بن بركة، وكيف تم التخطيط والتنفيذ وفي ما بعد الاغتيال.

ويوضح كتاب «خفايا اغتيال المهدي بن بركة- كشف جريمة دولية» لمؤلفيه جاك درجي وفريديك بلوكان وترجمة محمد صبح، أن هدف الاختفاء القسري (وهو المصطلح القانوني الذي تستخدمه الأمم المتحدة وليس الاستخدام السياسي والإعلام السائد- الاختطاف) هو تغييب صوت مؤثر ومعارض في العالم الثالث للتوجهات الغربية آنذاك، حيث استهدفت العملية من خلاله توجيه ضربة إلى حركة التحرر العربية الصاعدة، باعتباره أحد رموزها المهمة.

وتبدأ تفاصيل العملية بعد رصد طويل لحركة المهدي بن بركة في باريس حسب وثائق الشرطة والاستخبارات الفرنسية، إلى يوم التنفيذ في نوفمبر 1965، وذلك عبر سيناريو دقيق ومتقن على نحو شديد، ففي ذلك اليوم دخل المهدي بن بركة إلى أحد مقاهي الشانزليزيه، تقدّم منه اثنان من رجال البوليس وأوقفاه، ثم اصطحباه بسيارة سوداء كانت متوقفة بالقرب من المقهى الباريسي. هكذا ذهب المهدي بن بركة إلى المجهول لكي يلفّه النسيان رغم أن العملية تمت في وضح النهار، وأمام مرأى ومسمع من الناس.

وإذا كان المخطوف معلوماً فإن الخاطفين ظلّوا مجهولين، وظلّت عملية الاختطاف غامضة ومبهمة وفيها الكثير من التقوّلات والتأويلات، والأمر الذي زاد القضية التباساً وكأنه استكمال لمخطط الاختطاف، هو أن الحكم الذي صدر بشأنها كان يوم الخامس من يونيو 1967، أي بعد بدء العدوان الإسرائيلي بساعات، ولعل السبب في هذا التوقيت أريد منه تمرير القضية من دون ردود فعل تذكر أو احتجاجات أو استنكارات.

لكن الشيء الذي كان ولايزال واضحاً هو محاولة التغييب وإسدال ستار من التعميم حول القضية التي قبعت في دهاليز النسيان بعيدة عن دائرة الضوء، فلم تتم إدانة أحد من خلال المحاكمة ولم يوّجه الاتهام صراحة إلى أحد، لأن الخاطفين مجهولون وهويتهم غير معلومة، مع أن السلطات الفرنسية تتحمل المسؤولية القانونية، لكون المهدي بن بركة موجوداً فوق ترابها الوطني، وهو شخصية عامة ومعروفة، فقد كان أحد القادة الأساسيين للاتحاد الوطني للقوى الشعبية في المغرب ومنسّق مؤتمر القارات الثلاث (العالمي)، فكيف يختفي قسرياً؟

ورغم عدم وجود أدلة دامغة على الجهات التي قامت بتنفيذ الجريمة بإتقان ومهارة، لكن القرائن تشير بإصبع الاتهام إلى الجهات الفرنسية الرسمية، التي أدخلت القضية في أنفاق معتمة ولم يتم اكتشاف جثمان الضحية حتى الآن.

مازال الجانب الأخلاقي والقانوني يؤرق الكثير من دعاة حقوق الإنسان في فرنسا والعالم العربي والعالم بشكل عام، فبلد القانون والحريات، تراه متورطاً لحسابات سياسية ضيقة في عمل إرهابي لا يسقط بالتقادم وهو الاختفاء القسري، ويستطيع المرء أن يتصور حراجة الأسئلة الحارة التي توّجه إلى المسؤولين الفرنسيين طيلة أكثر من أربعة عقود ونيّف من الزمان! كيف لبلد على مثل هذا الرقي والتقدم يقدم أو يسهّل الإقدام على جريمة بشعة لتغييب رأي حر وصاحب فكر وقاد وقائد سياسي كبير!

ولعل ما يشير بإصبع الاتهام أن بعض من ثارت حولهم الشبهات قد تمت تصفيتهم انتحاراً أو موتاً بطريقة تثير علامات استفهام جديدة، وهو ما كشفه مؤلفا كتاب «خفايا اغتيال المهدي بن بركة» بعد تدقيقهما في ملفات الشرطة السرية الفرنسية بتسجيل متابعة دقيقة لمراحل عملية الاختفاء القسري وبعض الأفراد المشتبه فيهم بمسرح الجريمة وحيثياتها، وهو ما يشير إلى تورّط جهات رسمية عليا في كل من المغرب وفرنسا وغيرهما، حيث تمت الإشارة إلى الجنرال محمد أوفقير وزير الداخلية آنذاك ومتابعته للمهدي بن بركة، حيث كلّف محمد الدليمي لتنفيذها، لكون بن بركة يمثل العدو الأساسي للنظام السياسي آنذاك والذي لابدّ من التخلص منه.

كما هناك إشارة إلى تورط أربعة أجهزة استخبارية عالمية في الجريمة، في مقدمتها: الاستخبارات الفرنسية ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) والموساد الإسرائيلي والاستخبارات المغربية، إضافة إلى الاستعانة التي ترددت بخصوص مشاركة بعض المجرمين العاديين من محترفي أعمال الإرهاب والجريمة المنظمة، ولعل هذا كان موضع نقاش حقوقي في أكثر من ندوة ونشاط سياسي.

وإذا كان الرئيس شارل ديغول لا يعلم بعملية الاختفاء القسري، لكنه وجد نفسه أمام أعداء لدودين لاسيما جماعات الضغط ذات المواقع المتنفذة في الاستخبارات الفرنسية التي تملك تاريخاً استعمارياً عريقاً، خصوصاً في التجربة الجزائرية، الأمر الذي جعله عاجزاً عن كشف ملابسات هذه القضية الغامضة، كما أن صمت العديد من الجهات وضعتها في موضع التواطؤ!

وإذا كان سبب إخفاء معالم الجريمة أمراً يلجأ إليه المرتكبون دائماً، فإن الهدف منه يعود إلى الاعتقاد بأن المُختطف بثقله اليساري والاشتراكي يشكل خطراً على الجهات الخاطفة، وهو الأمر الذي دفع بالأجهزة الفرنسية إلى التعاون مع الأجهزة المخابراتية الدولية العديدة بعد التخلص من بن بركة لإخفاء المعلومات المتوافرة للتغطية على العملية، كي تبقى في دائرة النسيان.

وتقول وثيقة سرية فرنسية في مكافحة الجاسوسية يعود تاريخها إلى 30 سبتمبر 1966، أي بعد نحو عام على الاختفاء القسري أن الأميركان حرضوا الجنرال أوفقير على التخلص من أحد أعدائهم وكان الهدف هو إفشال مؤتمر القارات الثلاث الذي كان بن بركة يحضر له للانعقاد في هافانا (كوبا)، ومن جهة أخرى إضعاف التيار الديغولي الذي كان يرفض الانضواء تحت جناح الولايات المتحدة.

إن مجرد إلقاء ضوء جديد حول قضية المهدي بن بركة يعني أنها لاتزال قضية إنسانية تعيش في ضمائر الملايين من الناس في مغرب الأرض ومشرقها بل على المستوى العالمي!

* باحث ومفكر عربي