الرغيف يتحول إلى ضيف شرف

نشر في 28-03-2008
آخر تحديث 28-03-2008 | 00:00
 محمد سليمان

أزمة الرغيف ليست أزمة توزيع كما تزعم الدولة وأعوانها ولا ترجع إلى استخدام الخبز كعلف للطيور والحيوانات، كما يروج الكبار والذين ابتعدوا عن الشارع وناسه واعتصموا بالقصور والأبراج، الأزمة ترجع إلى قلة المعروض والمتاح من الخبز للناس في المدن والقرى.

في إحدى قصصه قدم لنا يوسف إدريس إنسانه الصغير الذي خلا منزله من الخبز والدقيق، فراح يحلم ويخطط لاستعارة «كيلة قمح» من أحد كبار القرية الذين اعتادوا أن يستدعوه ليلاً ليقوم بدور المهرج الذي يضحّك ويسلي حين يقلد الطيور والبشر والحيوانات، وفي قصته الآسرة استطاع إدريس قبل أكثر من نصف قرن أن يجسد معاناة بطله الذي مازال حتى الآن يمثل أغلبية الشعب المصري.

في القرى كان شراء الخبز قبل ربع قرن أو أكثر يعد عاراً كبيراً يخشاه المواطن ويتجنبه، وكان على الفلاحين والموظفين وغيرهم من سكان القرية أن يخزنوا القمح والدقيق، وأن يعدوا خبزهم بأيديهم في أفران المنازل، ولم يكن في ذلك الوقت من يجرؤ على إنشاء مخبز في القرية، لكن ذلك كله تغير بسبب الانفجار السكاني والبناء على الأراضي الزراعية، ومن ثم اعتماد شريحة كبيرة من سكان القرى على الخبز المدعوم.

الخبز، والأجور والغلاء ثلاث قضايا تهز مجتمعنا الآن وتهدد بكوارث لا حدود لها، خصوصا عندما يخدع النظام نفسه ويسد أذنيه وعينيه ويكتفي بالثرثرة عن نجاحاته وإنجازاته التي باركتها وأشادت بها المؤسسات الدولية، وعندما يقلل من خطورة هذه القضايا خصوصاً ندرة الخبز ويصدق أعوانه والمستفيدون من سياساته ناسيا أنهم يرددون نشيده ويجلسون معه في الزورق نفسه، وأنهم غالبا يخدعونه ويدينونه عندما يسعون إلى تبرئته أو الدفاع عنه.

أزمة الرغيف ليست أزمة توزيع كما تزعم الدولة وأعوانها ولا ترجع إلى استخدام الخبز كعلف للطيور والحيوانات كما يروج الكبار والذين ابتعدوا عن الشارع وناسه واعتصموا بالقصور والأبراج، الأزمة ترجع إلى قلة المعروض والمتاح من الخبز للناس في المدن والقرى، ومن ثم سيظل ذلك التدافع في الطوابير والعنف والتقاتل من أجل الحصول عليه، وصحفنا القومية تؤكد هذه الحقيقة عندما تحاول أحيانا دون تأمل أو وعي مساندة الدولة والدفاع عن سياساتها، فتحت عنوان «الأزمة ليست في رغيف العيش» كتب رئيس تحرير صحيفة الأهرام في 21 مارس يقول: «من المفارقات الغريبة أن تظهر مشكلة رغيف الخبز في الوقت الذي نتحدث فيه داخليا وخارجياً عن ذلك الأداء الاقتصادي المتميز للحكومة الحالية الذي أشادت به الدوائر العالمية» ولم يقل لنا السيد رئيس تحرير الأهرام من الذي تحدث داخلياً عن ذلك الأداء المتميز؟ هل هم المعتصمون والمحتجزون والعاطلون والمضربون والغرقى في البحر المتوسط؟ أم هم الوزراء ورجال الأعمال والأثرياء الجدد وأعوان النظام وحراسه؟

ويواصل الرجل دفاعه قائلا: «كيف نعاني أزمة خبز ولدينا مخصصات يومية من القمح تكفي لإنتاج 210 ملايين رغيف يوميا» وينسى أن هذا الإنتاج يعني أقل من ثلاثة أرغفة من الخبز للمواطن يوميا، وتتصاعد دهشة الرجل عندما يتحدث عن اشتداد الأزمة في القاهرة والجيزة «القاهرة الكبرى» فيقول: «وكيف تشتد الأزمة في القاهرة والجيزة ومخصصاتهما من القمح تكفي لإنتاج ستة ملايين رغيف يوميا» ولا أعرف كيف استطاع رئيس تحرير أكبر صحفنا القومية أن يتجاهل عدد سكان القاهرة والجيزة الذي يقترب من 15 مليونا، الأمر الذي يعني أقل من نصف رغيف للمواطن يوميا في العاصمة، والذي يفسر العنف والزحام وإطلاق النار أحياناً أمام المخابز هنا وهناك.

وهذا الدفاع في النهاية يكشف عن مفهوم جديد ومختلف للخبز وأهميته، مفهوم يروج له النظام وحلفاؤه والمدافعون عنه القادرون على الاستغناء عن خبزنا ببدائل أفخم وأشهى، والخبز على موائدهم العامرة يتحول إلى ديكور فقط أو ضيف شرف، وهم من هذا المنطلق يسيئون الظن بالمواطنين في المدن والقرى ويتهمونهم بالإهدار والتبذير واستضافة الحيوانات والطيور، ومن ثم إعاقة قطار التقدم والنمو الاقتصادي، ويبدو أن هؤلاء السادة قد نسوا تماما المفهوم الآخر للخبز والتراث الذي يجعله محوراً للأغاني والأمثال والقصص الشعبية وأساسا للحياة، وأظنهم نسوا أيضا أن الخبز على موائد البسطاء في المدن والقرى هو معظم الطعام أو كله أحيانا، ونقصه أو خلو المنازل منه لا يعني سوى الضياع والجوع وانفتاح كل أبواب الجحيم.

* كاتب وشاعر مصري

back to top