حكاية الدوائر الانتخابية وتحوّلاتها المستمرة، هي حكاية الانتخابات، ففيها ومن خلالها تم ويتم فرز الأرضية التي ترتكز عليها الانتخابات، والصراع على الدوائر وبشأنها كان المؤشر الأهم لنمط وطبيعة الحال السياسية السائدة في البلاد.لم يكن غريباً والحال كذلك الرضوخ إلى حقيقة أن الجغرافيا تمثل عنصراً أهمّ وربما العنصر الأهم في تشكيل المنتج السياسي، وربما خلالها وفي طياتها تدور الصراعات الحدودية، وفي أتونها نشأت مصطلحات محورية في السياسة الدولية كحق تقرير المصير، أو الدولة الميّتة أو المغلقة، وربما في محيطها نشأت متطلبات تخصص «الجغرافيا السياسية».وهكذا جاءت الدوائر الانتخابية كمعطى جغرافي لتشكّل مادة أساسية في الجدل السياسي، وفي أي تفاوض يدور بشأن الانتخابات، فالدوائر الانتخابية بالمطلق ليست حدودا جغرافية فحسب، لكنها تمثل مكونات سياسية واجتماعية ستحدد بالمحصلة طبيعة الفرز الانتخابي ونتائجها النهائية. فالجدل والصراع على الدوائر، هما إذا جدل وصراع بشأن السياسة، وإن بدَوَا من حيث الشكل أنهما جدل وصراع بشأن تحديد جغرافية المكان.الدوائر الانتخابية الكويتيةهذه أول انتخابات تجري على أساس الدوائر الخمس، حيث يكون لكل دائرة عشرة مقاعد، على أن يصوت كل ناخب لأربعة مرشحين فقط، ووصول النظام الانتخابي لصيغة الخمس دوائر لم يكن مفروشا بالورود، إنما جاء من خلال «قص ولزق»، كان حلا وسطياً في البداية، وتحول إلى حل قسري بالخمس والعشرين ثم تحول شعبياً إلى الخمس.وقد بدأت حكاية الدوائر الانتخابية في المجلس المشترك، عندما تقرر أن تتحول الكويت إلى النظام الديموقراطي عام 1961، وجرى عبر قنوات سياسية ومؤسسية عديدة نقاش عميق تمثّل فيه اتجاهان: الأول يمثل الحكم وكان يتجه إلى جعل الكويت عشرين دائرة، أما الاتجاه الثاني فكان يمثل الاتجاه الشعبي - إن جاز التعبير - وكان يرى أن تكون الكويت دائرة واحدة. وبعد جهد طويل وشد وجذب، تم الاتفاق على حل وسط هو عشر دوائر انتخابية لانتخاب عشرين نائبا للمجلس التأسيسي عام 1962، الذي كان مكلفا اصدار الدستور. كان واضحا منذ البداية أن صغر الدوائر، كما يراه بعض المتنفذين في أوساط الحكم، يمثل النمط الأمثل للتأثير في النتائج، فكلما صغُرت الدائرة كان التأثير في نتائجها أكبر، إلا أن المفاجأة التي كادت أن تعصف بالمسار الديموقراطي منذ بدايته هي قيام أمير البلاد - آنذاك - الشيخ عبدالله السالم بإصدار قانون تم نشره في الجريدة الرسمية، نص على ان عدد الدوائر الانتخابية هو عشرين دائرة، وكان ذلك بمنزلة الإخلال بالاتفاق على الحل الوسط، وهو العشر دوائر، وقد تحرك «التيار الشعبي» - آنذاك - لدى سمو الأمير معلنين انسحابهم من المشاركة في حال تم الإصرار على صيغة العشرين دائرة، فما كان من الشيخ عبدالله السالم إلا أن استجاب لتلك الضغوط وتفهّم الموقف، وتصرف كأب للجميع وفاجأهم جميعا باصداره مرسوما جديدا خلال أقل من شهر، حيث أكد المرسوم الجديد على صيغة العشر دوائر، وهكذا كان، تصرف حكيم من رجل حكيم. وتم إجراء انتخابات المجلس التأسيسي بموجب ذلك القانون العشري، بواقع مقعدين لكل دائرة، حيث كان عدد أعضاء المجلس التأسيسي 20 عضوا. كذلك جرى العمل بنظام العشر في انتخابات مجلس الأمة الأول عام 1963، بواقع خمسة مقاعد لكل دائرة، واستمر العمل في هذا النظام في انتخابات 1967 و1971 و1975، حين تم حل المجلس حلا غير دستوري سنة 1976 وفي ظل غياب الديموقراطية عن البلاد واستئثار السلطة التنفيذية بمقاليد الحكم المطلق. وفي إطار تداعيات إقليمية ومحلية شكلت حالة من الاختناق والاحتقان للبلاد، جرت محاولة يائسة لتنقيح الدستور عام 1980، وتم تشكيل لجنة بالتعيين للنظر في تنقيح الدستور، وحين فشلت تلك اللجنة في تحقيق المرجو منها، وهو الموافقة على مقترحات الحكومة الناسفة للدستور، قررت السلطة تنقيح الدستور من خلال مجلس الأمة.الدوائر الخمس والعشرونوهكذا عادت الدوائر إلى الدوران مجددا، فلم يبدُ أن هناك وسيلة لدى الحكم لضمان تنقيح الدستور من خلال مجلس الأمة، إلا من خلال العبث بالدوائر وتحويلها الى شيء آخر غير النظام العشري، وتمت الاستعانة بخبرات عربية وغير عربية في هذا الصدد، إلا أن الخبرات العربية في عملية تفتيت الدوائر كانت هي الأكثر فاعلية، فتفتق ذهن اولئك الخبراء عن نظام الخمس والعشرين وإلغاء النظام العشري، وجرت عملية «قص ولزق» للمناطق السكنية في الكويت، كان الهدف منها عدم وصول عناصر محددة إلى المجلس. وعلى الرغم من أن المذكرة التفسيرية لقانون الخمس والعشرين حددت أن مبررات التغيير لخمس وعشرين دائرة كانت تهدف الى العدالة التمثيلية والتقارب المناطقي، إلا ان ذلك الهدف تم نسفه على أرض الواقع جملة وتفصيلا.وكان واضحا ان الهدف الحقيقي - إزاحة عناصر معينة وتقليص تمثيل فئات قبلية وطائفية محددة - قد تحقق بامتياز، فقد خسر الانتخابات كل من تم استهدافه من دون تزوير مباشر كما حدث عام 1967، واثبتت الخبرات العربية التي تم استجلابها لتفصيل النظام الإيجابي، أنها متمكنة في مجالها، إلا أن الإشكال في أن ذلك النظام كان مخصصا فقط لعام 1981، حيث لم يعد مهماً في ذهن من خطط لذلك حجم أو نوعية الدوائر بعد أن يتم تنقيح الدستور، حيث لن يكون هناك مجلس أمة كما نعرف ولا دستور كالذي نعرف، وترتب على قصر النظر ذاك، أنه لم يتم التمكن من تمرير مشروع تنقيح كخطوة أولى على الرغم من تمريره من حيث المبدأ.وهكذا حين أجريت انتخابات 1985، جاءت بنتائج مختلفة تماما عن تلك التي فرضتها انتخابات 1981 واجواؤها المشحونة والمتحفزة. كان واضحا ان النظام لم يكن قادرا على تحمّل تلك الخسارة الكبيرة، التي أضاعت من يده إعادة عقارب الساعة الى ما قبل عام 1962، ففي أجواء حراك نشاط برلماني لافت للنظر في تفعيل دور ومكانة السلطة التشريعية على عدة جبهات، لم يتوانَ الحكم عن الإجهاز على الديموقراطية مرة أخرى عام 1986، لكن بصورة أشد وأكثر قسوة من تلك التي جرت عام 1976، حيث فرضت الرقابة المسبقة على الصحافة وتم تفعيل قانون أمن الدولة وتطبيق قانون التجمعات وإجراءات تعسفية تتناقض بالكامل مع أسس الدستور. وعندما اشتدت المواجهات الشعبية مع السلطة في ما عرف بديوانيات الاثنين في أواخر عام 1989، وجرى التعامل مع الامر بأسلوب أمني تعسفي، حاولت السلطة أن تجد مخرجا عن طريق ابتداع مجلس جديد، يبدو أنه كان النموذج المطلوب ليحل محل مجلس الأمة، فقد كان مجلسا بلا صلاحيات أُجريت انتخاباته على أساس الدوائر الخمس والعشرين في يونيو 1990، فيما يبدو انه كان فأل نحس ٍعلى الكويت، حيث لم يكمل المجلس الوطني شهره الثاني، حتى غزا صدام حسين الكويت في الثاني من اغسطس من ذلك العام، وانتهى ذلك التوجه اللادستوري الى غير رجعة. وبعد تحرير الكويت من براثن ذلك الغزو المشؤوم، تقررت العودة الى الانتخابات مرة أخرى في أكتوبر من عام 1992، وجرت بموجب نظام الخمس والعشرين كل الانتخابات التالية وعددها 4 انتخابات، حيث أجريت في اعوام 1996 و1999 و2003 و2006، والتي كانت معركتها الفاصلة هي معركة الدوائر الانتخابية، وأقر المجلس المنتخب على ضوئها الدوائر الخمس التي ستجري على أساسها انتخابات المجلس القادم في 17 مايو المقبل.