Ad

عندما سئل أحد أعضاء الحزب الحاكم في إسبانيا عن مدى دستورية المعونات الاقتصادية الممنوحة للكنيسة، أجاب قائلا: «لا يتعلق الأمر بشراء ذمم رجال الدين، فالجميع يعلم مدى تعارض مصالح الكنيسة مع الحكومة الحالية، لكن الدستور الإسباني يجبرنا على معاملة الكنيسة معاملة خاصة»!

بعد مرور سنة واحدة على دستور 1978، تعهدت الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية خطيّاً بالتمويل الذاتي، أي بعدم قبول معونات مادية من قبل الدولة، ولكن هذا التعهد لم يكن إلا حبراً على ورق، فالكنيسة استمرت في عقد الاتفاقيات الجانبية مع الحكومات المتعاقبة لاستقطاب أكبر قدر ممكن من المعونات الاقتصادية، ثم تمكنت في عام 1987 من عقد اتفاقية مع حكومة فيليبي غونثالث يتم بموجبها تقديم معونة اقتصادية إلى الكنيسة عن طريق استقطاع 0.52 في المئة من دخل الدولة من الضرائب المفروضة على المواطنين، وفي عام 2006 ارتفعت قيمة هذا الاستقطاع إلى 0.7 في المئة، أي ما يعادل أكثر من 140 مليون يورو سنوياً!

يرى العديد من المراقبين أن هذه المعونات الاقتصادية الضخمة التي تقدمها الدولة إلى الكنيسة تتعارض مع اتفاقية 1979، ومع دستور 1978، ولكن سبق أن أشرنا إلى أن الفقرة 3 من المادة 16 في الدستور الإسباني لا تخلو من إشكالية، ذلك أنها تمنح الدين الكاثوليكي معاملة خاصة وتلزم الدولة في إقامة «علاقة تعاون مع الكنيسة الكاثوليكية». أما فيما يتعلق باتفاقية 1979 التي التزمت من خلالها الكنيسة بالتمويل الذاتي، فإنها لا تخلو أيضا من إشكالية، ذلك أنها لا تشير إلى فترة زمنية محددة لمبدأ الالتزام بالتمويل الذاتي، مما يعني أن عقد أي اتفاقية جديدة بين الكنيسة والدولة يعفي الكنيسة تلقائياً من هذا الالتزام، وهذا بالضبط ما حدث على أرض الواقع! عندما سئل أحد أعضاء الحزب الحاكم عن مدى دستورية هذه المعونات الاقتصادية، أجاب قائلا: «لا يتعلق الأمر بشراء ذمم رجال الدين، فالجميع يعلم مدى تعارض مصالح الكنيسة مع الحكومة الحالية، لكن الدستور الإسباني يجبرنا على معاملة الكنيسة معاملة خاصة»!

لكن هل يحث الدستور الإسباني فعلاً على أن تحظى الكنيسة بمعاملة خاصة من قبل الدولة؟ دعنا نقرأ مرة أخرى ماذا تقول الفقرة 3 من المادة 16: «لا يجوز لأي معتقد ديني أن يكتسب صفة تشريعية. السلطة التشريعية، (ممثلة بالشعب)، تأخذ في الاعتبار المعتقدات الدينية للمجتمع الإسباني وتحافظ على علاقة تعاون مع الكنيسة الكاثوليكية والمعتقدات الأخرى». إذا كانت علاقة التعاون تعني «معاملة خاصة»، فإن هذه المعاملة الخاصة ليست حكراً على الكنيسة الكاثوليكية كما هو واضح في هذه المادة الدستورية، ولهذا السبب يشير أحد رجال القانون إلى حقيقة أن «المعاملة الخاصة التي توليها الدولة للكنيسة تنطوي على تمييز ضد بقية المعتقدات الدينية في إسبانيا، مهما كان عدد الأفراد المنتمين إليها». لكن لاحظ أن هذا الرأي القانوني، بغض النظر عن مدى صحته، لا يصب في اتجاه إقامة دولة علمانية تفصل الدين عن السياسة، بل في اتجاه إقامة دولة متعددة الأديان وتحت رعاية حكومية متكافئة!

إلى جانب المعونات الاقتصادية التي تتلقاها الكنيسة من الدولة، هناك أيضا بقايا لمظاهر الدين التي كانت سائدة في عهد الدكتاتور «فرانكو»، فمراسم التأبين الرسمية ومراسم التتويج واعتلاء المناصب العامة في الدولة، كلها مناسبات تتم برعاية الكنيسة، مما يضع علامة استفهام كبيرة على إسبانيا كدولة علمانية! في الشهر الماضي، صدر كتاب بعنوان «إسبانيا علمانية»، وضعه استاذ العلوم السياسية في جامعة مدريد «رافائيل سالاثار»، ويؤكد المؤلف من خلاله أن الطريق الوحيد إلى تأكيد علمانية إسبانيا هو أن تتبنى الدولة سياسة تدعو إلى التعبير عن التنوع العقائدي والثقافي والأخلاقي، ولعل اعتراضي الوحيد على ما جاء في هذا الكتاب هو قول المؤلف أن «العلمانية لا تعني أن يتزحزح الدين من المحيط العام»!