هناك في قاموس السياسة والسياسيين تعريف واضح لشخصيتي رجل السياسة وصاحب الرسالة. الأول يشبه النخلة الباسقة، تنحني للعاصفة الشديدة، حتى إذا زالت هذه العاصفة عادت إلى شموخها. أما الثاني فهو لا يعترف أصلاً بإمكان وجود العواصف وهبوبها.أوساط كبار المحللين السياسيين، أميركيين وأوروبيين، مازالت حائرة في تحليل «تركيبة» شخصية الرئيس الأميركي بوش: هل هو سياسي أم صاحب رسالة؟
بمعنى أوضح، ان السياسي هو الذي يعتمد المبدأ المتعارف عليه، والذي يدرس في الجامعات والكليات، «السياسة هي فن الممكن». أي أنه يُقدِم ويتراجع، يهجم ويتوقف في الوقت المناسب ونتيجة للمعطيات الموجودة على الأرض. وهذا ما يسميه البعض «الليونة» في التعامل مع الأمور، ويطلق عليه العلم الحديث اسم «البراغماتية»، وهي كلمة يستخدمها المفكرون وأصحاب النظريات السياسية. أما «صاحب الرسالة» فإنه لا يلتفت، لا من قريب ولا من بعيد، إلى ما يجري حوله من أحداث، ولا يأخذ في حسابه واقع اللحظة أو اللحظات التي يمر بها، بل يسير قُدُماً في اتباع النهج الذي رسمه لنفسه، أو رسمته له «الأقدار» التي اقتنع بصوابيتها، سواء جاءت هذه الأقدار على شكل أصوات من السماء، كما حصل للأنبياء القدامى، أو بصورة رؤيا «ميترافيزيقية» تنير له طريق متابعة الرسالة التي يؤمن إيماناً راسخاً بنجاحها مهما كانت الصعاب التي تقف في وجهها. كما كان يفعل أدعياء النبوة، وهم في أيامنا هذه كثر، فالرسالة في مفهومهم هي بداية الطريق نحو النّبوة، وتحقيق هذه الرسالة يجب ألا تقف في وجهها العراقيل الصعبة أو المستحيلة.
في بداية رئاسته، وربما إلى الآن، أعطى الرئيس بوش الانطباع بأنه صاحب رسالة. فهو، كما قال في مناسبات عدة، يستمع إلى صوت من السماء في تقرير الخطوات التي يتخذها، حدث هذا في غزوه لأفغانستان، وفي احتلاله للعراق، وفي إعلانه حرب المئة سنة على ما يسميه الإرهاب بنوعيه المرئي وغير المنظور. كذلك فإنه في علاقاته مع رؤساء الدول الصديقة ونصف الصديقة يتبع حَدسَه السماوي.
في بداية رئاسته، وبعد انتهاء اجتماعه الأول بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خرج بوش ليقول لمساعديه «إن هذا الرجل (بوتين) من الممكن التعاون معه». وعندما سأله أحدهم عن المعطيات التي بنى عليها قناعته هذه قال ما معناه: إن بوتين، قبل الدخول في أحاديث السياسة، روى له قصة شخصية معبّرة، فعندما كان يافعاً أهدته جدته صليباً خشبياً، وأنه -أي بوتين- كان يلجأ إلى هذا الصليب كلما وجد نفسه في مشكلة ما. وفي يوم حدث حريق في منزله الريفي فاقتحم النيران التي كانت قد التهمت نصف المنزل، واستطاع أن ينقذ هذا الصليب الذي حمله معه بوتين ومازال، في تجواله وفي ترحاله إلى اليوم. إن هذا الصليب هو وسيلة اتصاله بالسماء.
ما يدفع المحللون اليوم إلى التوقف قليلاً عن تحليلهم لشخصية الرئيس الأميركي (سياسيا كان أم صاحب رسالة) مؤشرات مازالت غامضة، وعلامات لا يمكن تفسيرها ظهرت في نهجه السياسي أخيراً، ربما تشير إلى تغيير في نمط تفكيره وفي أسلوب معالجته للأزمات الساخنة التي تحيط بإدارته من كل جانب. ففي مقال نشرته جريدة «نيويورك تايمز» في 15 أكتوبر الجاري ذكرت أن بوش، بعد سنة واحدة من وقوع كارثة مركزي التجارة في نيويورك، بما بات يعرف بـ«كارثة 9/11/»، وخلال اجتماع لمجلس الأمن القومي، كتب بخط يده بنود المنهج الاستراتيجي المستقبلي للولايات المتحدة، الذي يدعو فيه إلى ضرورة اتباع سياسة الضربات العسكرية الاستباقية، كلما لاح في الأفق خطرٌ ما يهدد الولايات المتحدة، وقبل أن يستفحل هذا الخطر، لاسيما في المجال النووي. أي انه دعا إلى ضرب كل دولة تبدي الرغبة في الحصول على السلاح النووي وقبل أن تباشر باتخاذ الخطوات العملية لتحقيق ذلك.
تضيف الجريدة النيويوركية أن ما حصل في خريف 2007 من إقدام الطائرات العسكرية الإسرائيلية على تدمير مبنى داخل الأراضي السورية تحت ذريعة أنه يستخدم لإنتاج المراحل الأولية من الوقود النووي، هو من نتاج ما كتبه بوش بخط يده كمنهج للتعامل مع أي خطر مستقبلي يهدد الولايات المتحدة أو أصدقاءها أو حلفاءها على حد سواء. المناقشات بشأن هذه العملية الإسرائيلية في الحلقة الضيقة في البيت الأبيض أثبتت وجود خلاف بين صانعي القرار الأميركي، والمفاجأة أن بوش نفسه تردد في اتخاذ موقف مؤيد لهذه العملية، مشيراً إلى أنها قد تزيد المتاعب في وجه الإدارة في وقت تحتاج فيه إلى بعض الهدوء بسبب الحرب في العراق، وأزمة المفاعل النووي مع إيران.
وفي رأي بعض الحلقات الضيقة لبوش، فإن موقفه هذا أثار الدهشة. فهو، وربما للمرة الأولى، يتخذ موقف «رجل سياسة» مخالفاً بذلك مبدأه كصاحب رسالة. وقرأ المستشارون موقف بوش على أنه يريد الابتعاد عن إثارة المشاكل مع سورية لأن ذلك قد يقوده إلى مواجهة مع إيران يبدو اليوم أنه ليس على الاستعداد الكامل لمواجهتها. ولعل الرئيس الأميركي، في نظر عدد محدود من مستشاريه «بدأ يعي الحقائق المحيطة به ويتصرف على هذا الأساس». وهو ما يفعله أي سياسي، فاشل أو ناجح.
يقول «مايكل غرين»، المدير السابق لدائرة شؤون آسيا في مجلس الأمن القومي، في تحليل هذه الظاهرة الجديدة في شخصية بوش، إن الرئيس الأميركي بات يدرك اليوم أنه لم يبق أمامه سوى 15 شهراً في البيت الأبيض، وهو يريد أن يخصص هذه الأشهر لمعالجة الحرب في العراق فقط لا غير، وأن الغارة الإسرائيلية على سورية ونتائجها السلبية من شأنها أن تمنعه من التركيز على العراق كهدف رئيسي أوحد. ويضيف «غرين» ان جلّ ما يحلم به بوش في هذه الأيام هو وضع برنامج لإخراج الولايات المتحدة من مأزقها في العراق، وإغلاق الملف النووي الكوري الشمالي بشكل نهائي. الثاني أصبح في متناول اليد، أما الأول فهو يشكل صداعاً دائماً لبوش شخصياً. أما المشكلة مع إيران فإن بوش سيتركها -كما هي- بمنزلة إرث صعب للذي سيخلفه في البيت الأبيض. وهذا يعني (وهذا هو المهم) أن الأيام أو الأسابيع القادمة ستشهد «برودة ملحوظة» في التعامل مع الملف الإيراني. وهذا يعني أيضاً خطط غزو إيران أو ضربها عسكرياً قد وضعت على الرفّ بانتظار الرئيس القادم.
غير أن الأحداث على المسرح الدولي تسارعت بشكل دراماتيكي في الأسابيع الأخيرة، مما يدفع إلى الاعتقاد أن بوش قد يتخلى عن ملابس رجل السياسة ويعود إلى ارتداء ثوب «صاحب الرسالة». ما قد يدفعه إلى ذلك ظهور بوتين على المسرح كمنافس قوي، وكلاعب ثان في الشؤون العالمية. وهناك من يقول إن بوتين شعر بالتغيير الذي طرأ على شخصية بوش وبوضعه جانباً تنفيذ سياسة الضربات أو الحروب الاستباقية، فسارع، كأي لاعب «شطرنج» محترف، إلى القول لبوش «كش ملك». وزيارة بوتين التاريخية إلى طهران، واجتماع الدول المحيطة ببحر قزوين الغني بالنفط والقرارات التي صدرت عن هذا الاجتماع وضعت بوش في خانة ضعف لا يحسد عليها. وبوش يكره الضعف أكثر من كرهه لتنظيم «القاعدة» ولأسامة بن لادن. لذلك لن يكون مستغرباً أن يعد العدة، وفي أسرع وقت ممكن، لطرد النفوذ الروسي من آسيا ومن المياه الدافئة في الشرق الأوسط (وهو حلم القياصرة الروس منذ زمن بعيد) قبل أن يترك البيت الأبيض في يناير 2009. وهذا قد يعيد منطقتنا مجدداً إلى دائرة الخطر، وفي أسرع مما يتصوره البعض.
ما يمكن أن يقال كخلاصة مختصرة لما حدث خلال الأيام الماضية من تطورات على المسرح الدولي، ان الحرب الباردة التي اعتبرت منتهية بعد زوال الاتحاد السوفييتي عن الخارطة السياسية، قد عادت اليوم أكثر قوة، وأشد خطورة على العالم كله.
تبقى نقطة تفسيرية واحدة. هناك في قاموس السياسة والسياسيين تعريف واضح لشخصيتي رجل السياسة وصاحب الرسالة. الأول يشبه النخلة الباسقة، تنحني للعاصفة الشديدة، حتى إذا زالت هذه العاصفة عادت إلى شموخها، أما الثاني فهو لا يعترف أصلاً بإمكان وجود العواصف وهبوبها.
* كاتب لبناني